مشاهدات مِنْ دمشق

مِنْ طبعي, أنَّني أحبّ تقصِّي الأمور, التي تهمّني, مِنْ قُرب وبطريقتي الخاصَّة. ولذلك, فقد كانت أوَّل زيارة لي إلى العراق في خريف عام 1990 ، عندما شرعتْ الولايات المتَّحدة وحلفاؤها وأتباعها في المنطقة يحشدون قواهم ضدّه. كانت الرحلة إلى العراق, آنذاك, تحتمل المخاطرة والكثير من الضنى, كما أنَّني احتجتُ, عندها, إلى قدرٍ كبير مِنْ مصارعة النفس للتغلّب على ميراث الكراهية الكبير المختزن فيها ضدّ الرئيس السابق, الراحل صدَّام حسين, ونظامه. وفي بغداد, في تلك الظروف الصعبة, رفضتُ أنْ أشارك في التوقيع على بيانٍ يشتمل على تأييد دخول القوّات العراقيَّة الكويت, واشترطتُ اقتصار البيان على إدانة التحشيد الأمريكيّ ضدَّ العراق, كي أوقِّع عليه. 
بعد ذلك, زرتُ العراق بضع مرّاتٍ, بعد الحرب الإمبرياليَّة المدمِّرة عليه, في ظروف كانت تحتمل أكبر المخاطر لأيّ مسافر إلى هناك; حيث كانت العصابات, آنذاك, تقطع الطرق, وتنهب وتقتل الكثير من المسافرين. وخلال تلك الزيارات, عبَّرتُ عن مؤازرتي للعراقيين ضدّ المخطّطات الإمبرياليَّة التي تُدبَّر ضدَّهم وضدّ بلدهم, كما اختلفت معهم, بوضوح وعلناً, في عددٍ من الأمور. 
في هذا السياق نفسه, زرتُ سوريَّة, مرَّتين, خلال الأحداث المأساويَّة الجارية فيها الآن, بسيَّارتي الخاصَّة وعلى نفقتي; وكانت آخرها يوم الأربعاء الماضي. وقد حذّرني العديد من الأصدقاء مِنْ مخاطر السفر, في المرّتين; لكنَّني أصررتُ على ذلك, وقد خاطرتْ زوجتي بالمشاركة معي في تينك الرحلتين.
أوَّلى المشاهدات, التقطناها في مركزي الحدود الأردنيّ والسوريّ; حيث لاحظنا قلّة عدد المسافرين مقارنةً بما كان عليه قبل الأزمة. وفي الزيارة الأخيرة, لفتت نظرنا إجراءات التفتيش المشدَّدة جدّاً في المركزين. استفسرتُ , لاحقاً, عن الأمر, مِنْ بعض الأصدقاء السوريين المطّلعين; فقيل لي إنَّ السبب هو اكتشاف عمليَّات تهريب للأسلحة. وفي المساء قرأتُ في بعض المواقع الإلكترونيَّة تصريحاً لمدير الأمن العامّ الأردنيّ الفريق حسين المجالي, قال فيه إنَّ بعض الأسلحة قد تسرَّب عن طريق الحدود إلى سوريَّة.
على الطريق الدوليّ الواصل بين عمَّان ودمشق, كانت حركة السير طبيعيَّة; صحيح أنَّ عدد السيارات كان أقلّ من المعتاد, لكنَّ الطريق لم يكن يخلو منها. وظلّ سيرنا منساباً بشكلٍ طبيعيّ إلى أنْ تجاوزنا "الكسوة" وصرنا عند مداخل دمشق; هناك وجدنا أنفسنا في نهاية طابورٍ طويلٍ من السيَّارات, وأمضينا بعض الوقت حتَّى وجدنا أنفسنا أمام حاجزٍ عسكريّ. نظر الجنديّ الشابّ الواقف في وسط الطريق في جوازي سفرنا, ثمّ أعادهما لنا وتمنَّى لنا رحلةً طيِّبة.
عندما دخلنا دمشق, دهمتنا فجأة زحمة السير, التي راحت تتصاعد كلّما توغّلنا فيها. وضعنا حقيبتنا في الفندق, وانطلقنا نتجوّل في المدينة. كانت الشوارع والساحات, في المرجة والصالحيَّة والحمرا وباب توما وسواها, تشهد حركةً طبيعيَّة من الناس والسيّارات. وفي بهو الفندق الذي أقمنا فيه التقيت ببعض الأصدقاء من الموالين للنظام ومن المعارضين له, وتحدّثنا وتحاورنا بوضوح بشأن ما يجري في سوريَّة.
دعاني أصدقاء للمشاركة في ندوة تلفزيونيَّة على الفضائيَّة السوريَّة, فتحدّثتُ عن الجوانب المختلفة للأزمة; فبالإضافة إلى رفضي التدخّل الأجنبي والأطماع الإمبرياليَّة في الهيمنة على سوريَّة, تحدّثتُ عن ضرورة العودة عن السياسات الليبراليَّة الجديدة التي اُتُّبِعتْ بعض أنماطها في سوريَّة خلال السنوات الماضية وكان لها دور في إيصال البلاد للأزمة الحاليَّة, كما تحدَّثتُ عن الحريَّة والديمقراطيَّة كضرورة لحماية سوريَّة وخروجها من الأزمة ونهوضها وتقدّمها.
بعد الثانية عشرة والنصف ليلاً, ذهبنا, أنا وزوجتي, للعشاء في مطعمٍ في باب توما; ففوجئنا بأنَّ المطعم كان مكتظّاً بالناس وبصخبهم المرتفع.. شبّان وفتيات وكهول وعائلات. ظللنا هناك حتَّى الثانية صباحاً ثمَّ عدنا إلى الفندق بسيَّارة أجرة, وكان المطعم لا يزال مأهولاً بالساهرين.
في اليوم التالي, كان الطقس ماطراً وبارداً, ومع ذلك, رأيناً الناس يسيرون, على الأقدام, لمسافاتٍ طويلة, في مجموعاتٍ كبيرة متتابعة, وقد حملوا علم سوريَّة المستقلّة (وليس علم الانتداب الفرنسيّ), في مختلف الشوارع الفرعيَّة والرئيسة, قاصدين ساحة السبع بحرات, للتعبير عن موقفهم الرافض للتدخّل الأجنبيّ في بلادهم. وبعد ذلك, رأينا المشهد نفسه في ساحة الأمويين. ثمَّ رأيناهم, عصراً, يعودون مِنْ حيث أتوا بالطريقة نفسها.
عدنا في مساء اليوم نفسه إلى عمَّان, وفي اليوم التالي, تابعنا أخبار التفجيرات الإجراميَّة في دمشق ومخيَّم اليرموك وحلب. لقد وقعتْ تلك التفجيرات في حيين مسيحيين في دمشق وحيّ مسيحيّ في حلب ومخيّم فلسطينيّ في دمشق. ولا أريد أنْ أتحدَّث عن استنتاجاتي بهذا الشأن; بل أترك ذلك لكلِّ ذي عينين وصاحب موقف وطنيّ وقوميّ وإنسانيّ حرّ وسليم ومستقلّ.