بدلاً من التخلي عنهم بسبب الفشل تمت ترقيتهم.. أزمة وسط جيش الاحتلال بسبب التعيينات العسكرية الجديدة
ما زال جيش الاحتلال الإسرائيلي يعيش أزمات داخلية متسارعة منذ فشله الذريع يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، المتمثل في نجاح هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة، الأمر الذي ساهم في تصدّع صورته أمام الرأي العام الداخلي، وتراجع الثقة فيه بصورة غير مسبوقة.
آخر هذه الأزمات التي يعانيها جيش الاحتلال شهدتها الساعات الأخيرة، وتمثلت في سلسلة تعيينات عسكرية رفيعة المستوى أقدم عليها وزير الحرب يوآف غالانت ورئيس هيئة الأركان هآرتسي هاليفي، وتتعلق بعدد من الجنرالات الجدد الذين سيقودون الجيش في المرحلة المقبلة، عقب استقالة أسلافهم بسبب مسؤوليتهم عن إخفاق أكتوبر/تشرين الأول.
أسماء وتنقلات
فقد أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أسماء الضباط الذين ستتم ترقيتهم إلى مناصب عليا في منتدى الأركان العامة، بعد اتفاق بين غالانت وهاليفي، أولهم رئيس شعبة العمليات في الجيش العميد شلومي بيندر الذي سيصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات العسكرية- أمان، خلفاً للجنرال أهارون حاليفا الذي استقال بسبب فشله في توقع هجوم حماس الشهير.
كما أن بيندر طالته انتقادات واسعة بسبب عدم قدرته على منع ذلك الهجوم رغم توليه شعبة العمليات، وهي الأخطر في هيئة الأركان، ويفترض أن يغادر الجيش، وليس أن يحصل على ترقية، كما حصل؛ لأنه لم يحصل على تحقيق يبرّئه من الفشل، كما أن هناك جنرالات أكثر منه خبرة مثل يهودا فوكس ونيتسان ألون تم استبعادهم لصالحه.
اللافت أن الجمهور الإسرائيلي انضمّ للسجال القائم حول هذه التعيينات، ففي الأيام الأخيرة، هدّدت العائلات الإسرائيلية الثكلى بتقديم التماس للمحكمة العليا ضد تعيين بيندر الذي كان رئيساً لقسم العمليات أثناء هجوم حماس للمستوطنات؛ لأنه المسؤول عن عدم استعدادات الجيش لمثل هذه المواقف.
ووصفت العائلات التي فقدت أقاربها في "طوفان الأقصى" تعيينه بـ"الفاضح"، بسبب دوره في هذا الإغفال المهين صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكتبت العائلات في رسالتها كلاماً قاسياً موجهاً إلى غالانت وهاليفي بقولها إن "هناك حدّاً لبصقهما على العائلات الثكلى".
فيما سيحلّ المقدم آفي بلوت قائداً لقيادة المنطقة الوسطى في الجيش المسؤولة عن الضفة الغربية، خلفاً للواء يهودا فوكس الذي استقال عقب خلافاته مع قادة المستوطنين الذين يتهمونه بعدم توفير الحماية الكافية لهم من هجمات الفلسطينيين.
فيما يعتبر بلوت، وهو السكرتير العسكري لرئيس الوزراء، أول جنرال يتخرج من المدارس الدينية، ويرتقي إلى أعلى منصب في الجيش؛ مما سيشكل إنجازاً للتيار الديني اليهودي، وسيكون من الصعب على معسكر اليمين الصراخ بشأن التمييز والحرمان من المناصب العليا.
التيار الديني
من الواضح أن تعيين بلوت جاء كمحاولة من غالانت وهليفي لتهدئة غضب الإسرائيليين المتدينين، لأننا أمام جنرال يرتدي "القلنسوة"، وهو خريج مدرسة دينية، ومقبول جداً من اللوبي الاستيطاني، مما يبعد الاعتبارات المهنية البحتة عن هذا التعيين، ويأتي لحسابات داخلية فقط.
كما سيتم تعيين قائد الفرقة 98 المقدم دان غولدفوس قائداً للسرب الشمالي، وقائداً لتشكيل المناورة في الذراع البرية، مع أنه حصل على توبيخ من قائد الأركان عقب خطاب علني ألقاه.
وكان غولدفوس قد انتقد أقطاب الساحة السياسية والحزبية، وطالبهم بالوقوف عند مسؤولياتهم، وعدم التهرب منها، مما دفعه للإعلان في أوساطه أنه سيتقاعد من الجيش، وتم التسريب أن قائد الجبهة الداخلية اللواء رافي ميلو سيحلّ خليفة له، لكنه بدلاً من ذلك تمت ترقيته، والتجاوز عن الخطأ الذي ارتكبه.
تجدر الإشارة إلى أن غولدفوس إبان قيادته للفرقة 98، قاد في الأشهر الأخيرة القتال ضد حماس في خان يونس، لكن مرور أربعة أشهر على ذلك القتال خرج منه بصفر كبير في تحقيق أهدافه، فلا استعاد أسرى إسرائيليين، ولا ألقى القبض على قادة حماس، كما دأب على التوعّد بذلك، مما يطرح علامات استفهام حول إمكانية تكراره لذات الإخفاق أمام حزب الله مستقبلاً، عقب تعيينه للمنطقة الشمالية.
كما سيتم تعيين دادو بار كاليفا في منصب قائد شعبة القوى البشرية، فيما تم تنصيب المقدم أفيعاد داغان رئيس قسم التحول الرقمي في منصب رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات.
الغضب والاستياء
في الوقت ذاته، تم استبعاد عدد من كبار الجنرالات من التعيينات الحالية؛ مما أثار مزيداً من الغضب في أوساطهم، لا سيما رئيس شعبة الأفراد السابق الجنرال يانيف أسور، الذي حدثت تحت قيادته إحدى أكبر أزمات القوى البشرية في تاريخ الجيش، والعميد عوفر فينتر، واللواء إليعازر توليدانو، الذي أدين في بداية الحرب بالمسؤولية الكاملة عن الإخفاقات التي أدت إلى هجوم حماس.
وتشير التقديرات إلى أنه سيتقاعد قريباً، الأمر الذي أشار إلى انتهاء عملهم في الجيش، ولكن بطريقة غير لائقة، لأنها تشبه، وفق التعبير الإسرائيلي، لاعب كرة القدم يتم إرساله للإحماء في الشوطين الكاملين، لكن أقدامه لا تطأ العُشب أبداً، فهذه إهانة قاسية.
في الوقت ذاته، فلا زالت هوية الملحق العسكري في واشنطن، ورئيس قسم العمليات في هيئة الأركان، وقائد الوحدة الاستخبارية 8200، مناصب شاغرة، ويتوقع أن تحمل المزيد من المفاجآت، في حال تم الكشف عمن سيشغل هذه المواقع الجديدة والحساسة.
لم تمرّ هذه التعيينات الجديدة في جيش الاحتلال مرور الكرام أمام الإسرائيليين عموماً، والحلبة الحزبية خصوصاً، فقد رأى معارضوها أنه يجب تجميد التعيينات العسكرية العليا، خاصة الجنرالات، إلى حين الإتيان برئيس أركان جديد بعد هاليفي الذي تأكدت إحالته للتقاعد قريباً، بحيث تكون من المهام الأساسية للقائد الجديد للجيش تصميم هيئة الأركان العامة في حلّتها المتجددة، وتجاوز الأخطاء التي وقع فيها أسلافه.
في الوقت ذاته، فقد بدأت مفاعيل التعيينات الجديدة بإحداث مزيد من تعميق التصدّع الحاصل في القيادتين السياسية والأمنية لدى الاحتلال، حيث شنّ وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير زعيم حزب القوة اليهودية، هجوماً على غالانت بعد هذه التعيينات.
وطالب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بإقالته من منصبه، متهماً إياه بأنه "أحد أبرز المسؤولين عن فشل أكتوبر/تشرين الأول، وليس لديه تفويض للموافقة على تعيينات الجنرالات، وتحديد هيئة الأركان العامة المقبلة للجيش".
أما رئيس حزب الصهيونية الدينية وزير المالية بيتسلئيل سموتريتش، فعقّب على هذه التعيينات بالقول إن "هيئة الأركان العامة الحالية بعد فشلها في أكتوبر/تشرين الأول ليست جديرة للقيام بهذه التعيينات الرفيعة، لأنها متورطة بتقصير عسكري، ولم تعد شرعية، وما قامت به ليس الطريقة المناسبة لاستعادة الثقة فيها، لأن قائد الجيش ذاته يحتاج إلى تصحيح واستبدال، ووقف هذه الفضيحة".
في حين دافع زعيم المعارضة يائير لابيد عن هذه التعيينات بقوله أنها "من مسئولية وواجب رئيس الأركان ووزير الأمن، وإن المحاولة غير الشرعية لبن غفير وسموتريتش، اللذين لم يخدما أصلاً في الجيش، لن تنجح، وإذا كان هناك من يجب أن يستقيل، فهي الحكومة الفاسدة والمدمرة التي نعاني تحت ولايتها، وتشنّ حملة سياسية فاشلة وخطيرة".
التكتيكي والاستراتيجي
الأوساط العسكرية المطلعة على كواليس التعيينات الجديدة وجهت انتقاداً قاسياً إلى من قام بها، وهو هاليفي، الجندي رقم واحد في الدولة؛ لأنه بما أن مرحلة الحرب الشاملة انتهت في غزة منذ فترة طويلة، وليس هناك قتال فعلي فيها، فقد كان من المفترض أن يتصرف تماماً كما فعل حاليفا الذي سلّم، وأعلن تحمّله المسؤولية الشخصية عن الفشل.
ولأن ألف باء إدارة وقيادة تؤكد أن مسؤولية هاليفي أكبر بما لا يقاس من مسؤولية حاليفا وجنرالات آخرين، ولأنه على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، ترأس المنظومة العسكرية خلال فشل غير مسبوق، وطالما أنه كان القائد الأعلى في تلك الأوقات الحرجة، ويتخذ كل القرارات، فإن السلوك المتوقع منه كان يتمثل بأن يأخذ على عاتقه المسؤولية "الأخلاقية"، ويعلن استقالته، ويقدمها لوزير الأمن والحكومة، أما مُضيّه قدماً في التعيينات الحالية، وكأن شيئاً لم يحدث، فهذا لا يليق.
انتقاد آخر يوجه لقيادة الجيش بشأن هذه التعيينات مفاده أنه لا يوجد سبب للاستعجال فيها، وتعيين قادة جدد للشُعب والأقسام والأجهزة المذكورة، خاصة أن بعضهم قد يطلب منه البقاء بضعة أشهر أخرى في مواقعهم بانتظار استقالة قائد الجيش، والإتيان بقيادة جديدة.
عدم استخلاص الدروس
تكشف هذه التعيينات الجديدة أن جيش الاحتلال لم يتعلم الدروس ويستخلص العبر، رغم سيل الانتقادات الهائلة التي تلقاها في الأشهر السابقة، فقد بقي الجيش بقيادته الحالية غارقاً في أسوأ أزمة في تاريخه، مما يطرح تساؤلات مشروعة عن عدم إسراعه في إجراء التحقيقات اللازمة.
كل هذا يشير إلى تخوف حقيقي داخل الأوساط العسكرية من فقدان ثقة الجمهور في القيادة الجديدة للجيش، وصولاً إلى الإضرار بحوافز الخدمة العسكرية برمّتها في الجيش.
النتيجة النهائية لهذه التعيينات أن صورة الجيش ستنتهي بالخسارة، لأن هذه التعيينات وما صاحبها من انتقادات داخل الحكومة وخارجها توضح مرة أخرى بما لا يدع مجالاً للشك أننا في وضع غير طبيعي للجيش، لأنه في وضع مثالي نموذجي من اللازم أن يعود رئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس الأركان إلى بيوتهم، على أن يقوم الجيل القادم في الجيش بتعيين بدلاء لهم، لكن الواقع المعيش يقول إن هؤلاء الثلاثة ما زالوا في مواقعهم، بل يتنصلون من المسؤولية، ويؤجلون كل شيء حتى نهاية الحرب.
في المقابل، تتساءل أوساط الجيش: إذا كانت انتقادات بن غفير وسموتريتش موجهة لغالانت وهاليفي بعدم أهليتهما لهذه التعيينات، فلماذا يستطيع رئيس الحكومة المدان بثلاث تهم جنائية بقيادة الدولة إلى خمس انتخابات من أجل البقاء فقط، ويحلّ الكنيست عندما يريد ذلك، في خرق مكشوف لكل قواعد اللعبة السياسية، فقط حتى يتمكن من الهروب من العقوبة التي تنتظره، ولا تلتصق به أكبر كارثة أمنية في تاريخ الدولة.
أكثر من ذلك، فإن أي لجنة تحقيق حكومية مستقلة ستدين نتنياهو صراحة بأنه كان مسؤولاً عن أكبر كارثة على الإطلاق، أودت بحياة الآلاف من القتلى والأسرى الإسرائيليين، لكنه تجاهل هذه المسؤولية، واستمر يزاول مهامه من تلقاء نفسه، ولم يعتذر، بل إنه يعزل نفسه عن "ضحايا" تلك الكارثة، فهو لا يكاد يشارك في الجنازات، أو زيارة العائلات الثكلى، ويرفض مقابلة المختطفين العائدين، ويواصل تخليه عن العشرات منهم ممن زالوا أسرى لدى حماس.
ما من شكّ أن إجراء هذه التعيينات الجديدة في هيئة الأركان العامة تسبّب في عاصفة متزايدة بشأن فشل الجيش تحت قيادته الحالية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مما منح الكثير من الإسرائيليين وجاهة في مطالبة القيادة الحالية للجيش، كل القيادة، بأن تترك المفاتيح، وتعود إلى منازلها منذ فترة طويلة، لكن الغريب أنه حتى قبل أن تتحدث هذه القيادة بوضوح عن دورها في ذلك الفشل المدوّي، فإنها تخوض معاركها "الدونكيشوتية" على المناصب الرئيسية في الجيش، مما جعل التعيينات الجديدة تجري على خلفية اضطراب كبير، وتثير من جديد مزيداً من الجدل السياسي بين أطراف الحكومة والمعارضة.
الاعتبارات الشخصية
الانطباع السائد في الأوساط الإسرائيلية يتجاوز انتقاد هذه التعيينات بالإشارة إلى أن كل من كان مسؤولاً عن أمن الدولة إبان ذلك الفشل يجب أن يعود إلى بيته، الحكومة بأكملها، منذ بدايتها وحتى نهايتها، وبالطبع قمة الجيش والأجهزة الأمنية.
كما أن أي تعيينات جديدة في هذا الوقت بالذات يحمل إشكالية جوهرية يقفز عن سابق إصرار وتعمد ذلك الفشل المدوي، وستكون عواقبه مدمرة، وبدلاً من البحث عن طريقة لمحو أو تصحيح ذلك الفشل، فإن قيادة الجيش ووزارة الأمن منشغلة بتعيينات جديدة لا تبدو بريئة من الاعتبارات الشخصية.
مع العلم أن الحرب الدائرة في غزة من جهة، وعدم البدء بعمل لجان التحقيق الرسمية لتحديد المسؤوليات عن ذلك الإخفاق، تشكلان ذريعة "مقنعة" أمام غالانت وهاليفي لتأجيل أي قرارات وتعيينات لا ضرورة حيوية لاستبدالها الآن.
لأنه ليس من المنطق أن يجد رئيس الأركان القادم نفسه أمام تعيينات قام بها من سيدانون عما قريب بذلك الفشل، وهو الذي سيُطلب منه إعادة بناء الجيش من جديد، والنتيجة أن هذه التعيينات حصلت على مصادقة نفس الحكومة الفاسدة وغير المسؤولة والمتعجرفة التي قادت الإسرائيليين جميعاً إلى تلك الكارثة التي ما زالت تضرب بتردداتها أرجاء الدولة.