عزلتهم تزداد وهزيمتهم مؤكدة
هناك مَنْ يعتقد أن الاحتلال الصهيوني قد انهزم منذ السابع من أكتوبر، وما يجري بعد ذلك هو تأكيد للهزيمة. منطقي هذا، وهذا يقوله العديد من سياسييهم وجنرالاتهم المتقاعدين وإعلامييهم، ويقوله شعبنا ايضاً رغم الثمن الباهظ الذي ُدفع ويُدفع يومياً ثمناً لهزيمتهم تلك.
ومع ذلك فالتطورات المتسارعة منذ أسابيع جعلت هزيمتهم تبدو مؤكدة، فالتاريخ المصنوع منذ 7 أوكتوبرـ ويصنع يومياً بدماء وتضحيات الغزيين لن يعود للوراء، فنهاية مشروعهم الاستعماري العنصري في فلسطين بدأت بفضل تسجيل النقاط من الشعب ومقاومته.
أولى تلك التطورات حركة الطلاب الأمريكيين في جامعات النخبة (والحديث حتى اللحظة عن 89 جامعة وكلية)، وامتدادها لجامعات دولية في العالم (الحديث عن 11 جامعة في فرنسا وبريطانيا واستراليا واسبانيا وكندا)، والتي يجب النظر لها باعتبارها حدثا له مدلولات ذات طابع وتأثير تاريخيين، ليس فقط على الحقوق والحريات داخل المجتمع الرأسمالي الغربي الذي يرفع لواء الليبرالية والديموقراطية مع العصي التي تقمع الطلبة، بل وبالأساس على مكانة القضية الوطنية عالمياً، ومكانة الكيان والمجتمع الاستيطانيين في العالم.
نحن أمام انتفاضة طلابية تعم العشرات من جامعات النخب في أمريكا، التي بالعادة يحتل خريجوها المواقع الأساسية في مؤسسات الدولة والجيش والأجهزة الأمنية والاستخبارية والشركات العملاقة، وعليه فالتغيّر الحاصل في الوعي السياسي لنخب المستقبل هام جداً بل وتاريخي، وإن تعزّز واستمر، سيكون له تأثير على مكانة الكيان في أمريكا، تلك المكانة التي مكّنته، ولا زالت بحدود واسعة، من ان يقرر في السياسة الأمريكية لخدمة توجهاته الفاشية العنصرية، لدرجة أن نتياهو تعامل مع نفسه كمقرر لسياسة التعامل مع الطلبة الأمريكيين فبدأ يعطي توجيهاته بقمع الطلاب والتصدي لهم.
وهذا الوعي السياسي الناشي كان قادراً على الجمع بين شعار استراتيجي ومطلب تكتيكي آني في عملية تعكس موضوعياُ، ولو دون تخطيط مسبّق، حالة من النضج لدى الطلبة. أما الشعار الاستراتيجي فهو ( من النهر إلى البحر فلسطين ستتحرر From the river to the sea, Palestine will be free ) بما يعنيه ذلك من موقف استراتيجي من وجود الكيان الصهيوني من الاساس، والدعوة لتحرير فلسطين، فلا غرابة إذاً أن يجن جنون الصهاينة من هذا الشعار متهمين مطلقيه، كالعادة، باللاسامية، فيما يتجه المشرعون الأمريكيون لتجريم مَنْ يطلقه.
إن هذا الوعي السياسي الناشيء وجّه ضربة قاسمة لأكذوبة اللاسامية التي نجح الصهاينة طوال عقود باستثمارها لتبرير ممارسة دور الجلاد الفاشي المغلّف ببكائية الضحية. لم تعد تنفعهم هذه الكذبة فقد انفضحت حتى للعديد من النشطاء اليهود ضمن الحركة الطلابية نفسها. سقطت روايتهم وانتصرت روايتنا، هذا هو الاستخلاص الرئيس.
أما المطلب التكتيكي/ الآني فهو تبني مطلب حركة المقاطعة العالمية الـ BDS بدعوة إدارات الجامعات للمقاطعة الاقتصادية والمالية للكيان الصهيوني، وسحب الاستثمارات وعدم قبولها منه. إن أهمية هذا الجمع، وهذا المطلب تحديداً، هو أنه يذكّر الصهاينة والامبرياليين بذات الحركة التي نشأت في الجامعات، وتحديداً في جامعة كولومبيا، في ثمانينيات القرن الماضي مطالبة بمقاطعة النظام العنصري في جنوب إفريقيا، فكانت جزءا من انتفاضة عالمية انتهت بسقوط النظام السياسي العنصري هناك. وبالتالي يصح المثل الشعبي هنا (إن أمطرت في بلاد بشّر بلاد).
مطلوبون للعدالة كمجرمين
أما التطور الثاني فهو تزايد التوقعات بإصدار مذكرات اعتقال من محكمة الجنايات الدولية تطال نتنياهو وغالانت وهاليفي، بتهمة جرائم الحرب، وبغض النظر إن حصل ذلك أم لا، فالمدعي العام خان آخر ما يُوصف به هو النزاهة والمصداقية القانونية، وهو صديق للأمريكيين والصهاينة، فإن تزايد الاهتمام إعلامياً، وطرح الصهاينة لإجراءات تحوّطية، والطلب من البيت الأبيض حمايتهم، كل ذلك يضعهم في خانة واحدة فقط: مطلوبين للعدالة كاي مجرمين، شأن رجالات العصابات المافيوية. ليس من السهل أن يصبح جنرالات دولة وسياسيوها مطلوبين كمجرمي حرب، فهذا يزعزع مكانتهم الدولية ويفقد الرأي العام الشعبي الثقة بروايتهم، ويعزز بالمقابل روايتنا، وذلك مكسب سياسي هام يضاف للعديد من المكاسب/ النقاط على طريق الانتصار.
وفي ذات السياق تعزز وانتصار روايتنا تأتي دعوة العديد من الدول الأوروبية، كإسبانيا وإيرلندا وبلجيكا وغيرهم، بضرورة التوجه للاعتراف بدولة فلسطينية. إن الدولة التي يدعون للاعتراف بها هي (دولة تحت الاحتلال) ليست قائمة بطبيعة الحال، ويترافق معها التسليم بمشروعية المشروع الصهيوني في فلسطين، وفق شعار الدولتين البائس، وسيتم (توضيح) ماهيتها وفق تصور بايدن: لا سيادة، ومنزوعة السلاح، وعلى قاعدة الحفاظ على أمن إسرائيل، اي دولة مسخ ببساطة.
ومع ذلك لا يجوز إغفال ان التطرق لموضوعة الدولة بشكل حثيث في الخطابين الأمريكي والأوروبي يعني تراجعاً، مع أنه شكلياً، في الموقفين، وليس نتاج اعتراف سياسي بحق من حقوق شعبنا، بل كنتاج لعزلة السياستين الأوروبية والأمريكية، بفعل الإنتفاضة الدولية لصالح شعبنا ومقاومته. ايضاً نحن أمام مكسب، او نقطة دبلوماسية جديدة، تضاف لرصيد شعبنا دولياً وتزيد من عزلة الكيان وتقرّب هزيمته.
المقاومة هي العامل المقرر
يمكن القول أن انفضاح أكاذيبهم حول ممارسات المقاومين يوم 7 أوكتوبر لعب دوره في حشد الدعم الشعبي العالمي، ويمكن القول أيضاً ان همجية سلوكهم ضد شعبنا وحرب إبادتهم ايضاً ساهمت في الحشد. كما ويمكن القول أيضا بأن سياستهم الإعلامية في شيطنة شعبنا ومقاوميه فشلت، فانقلبت سياستهم عليهم. ويمكن أخيراً القول ان النشاط الإعلامي للمقاومة وشعبنا واصدقائه، وخاصة عبر الشباب النشط في العالم على شبكات التواصل بنشر الحقائق وفضح الأكاذيب، كان له دور بارز في تحقيق هذا الحشد.
كل ذلك صحيح بل وواقعي تماماً، ولكن ما كان لكل ذلك أن يفعل فعله لولا صمود شعب غزة ومقاوميها، وانجازاتهم الميدانية على الأرض، التي حوّلت غزة لرمال يغرقون فيها يومياً، فتتعمق أزمتهم وتنكشف ليس فقط أكاذيبهم، بل وبؤس أهدافهم التي لم تتحقق، فتُصاغ، عند الرأي العام العالمي الشعبي، صورة شعبنا كشعب/ نموذج للمقاتل من أجل الحرية. أضحى العالم بأكمله رمالا متحركة تغرق مكانتهم وسمعتهم فيه.
إن هذه الصورة لشعبنا باتت تقابلها صورتهم: متهمون بالإبادة، ومتهمون بجرائم الحرب، وروايتهم كاذبة، وسلوكهم فاشي وعنصري، ودولتهم تُنبذ يوماً بعد يوم، وسمعتهم ومكانتهم تغرق في رمال العالم المتحركة.
هذا يقرب شعبنا من الانتصار التاريخي ويؤكد أن هزيمتهم مؤكدة.