الاستثمار البيئي في الفقراء
العشرون مليار دولار، التي قدمتها وكالة حماية البيئة الأميركية هذا الشهر لدعم التحوُّل إلى الطاقة المستدامة في المجتمعات المحلية، تشكّل علامة فارقة. فحتى الآن، كادت فوائد برامج الدعم للبيئة والمناخ حول العالم تكون محصورة في الفئات الغنية القادرة على تلبية الشروط الصعبة للقروض والمساعدات. أما في هذه الحالة، فقد خصصت الوكالة الأميركية، ضمن مبادرة «البنك الأخضر»، مبلغاً ضخماً لمساعدة المجموعات الفقيرة والمهمّشة بالولايات المتحدة على الانضمام إلى قافلة التغيير. هذه الأموال ستوزّع على ثمانية بنوك مختصة بالتنمية المجتمعية، لمساعدة المجتمعات المحلية على تحقيق الأهداف البيئية والمناخية.
يمكن لهذه الأموال تمويل مئات الآلاف من المبادرات والمشروعات المحلية المؤهلة، على مستويات متفاوتة، كانت سبل التمويل التقليدية مسدودة أمامها. وهذا يتراوح بين التحسينات المنزلية البسيطة الموفّرة للطاقة والمياه، والمشروعات الكبرى للطاقة النظيفة والمتجددة، وأنظمة التدفئة والتبريد المشتركة على مستوى الأحياء والمدن، وشبكات الشحن الكهربائي للسيارات، وصولاً إلى مشروعات إسكان وزراعة وصناعة مستدامة. لكن الشرط الأساسي أن تكون لتلبية احتياجات محلّية، وأن يتبنّاها المجتمع المحلّي ويتحمّل مسؤولية التنفيذ والمراقبة. ومن المهم وضع قيود تمنع استغلالها من «صائدي» أموال الدعم لمشروعات وهمية.
المستفيدون الأفراد من المشروع قد يكونون أصحاب بيوت أو أرباب أعمال. وقد روى صاحب مطعم في إحدى ضواحي مدينة ديترويت أن البنوك التجارية رفضت طلبات تقدّم بها لتحسين الأداء البيئي لمطعمه، اشتملت على تركيب ألواح شمسية للكهرباء، وجهاز تدفئة موفّر للطاقة، ونظام تجميع مياه الأمطار على السطح لاستخدامها في الحمامات... عدّت البنوك التقليدية هذه الأفكار بعيدة عن الواقع، ولا تؤمن مردوداً مضموناً، فضلاً عن أن تدابير الكفاءة والطاقة النظيفة وتوفير المياه ليست في نطاق عملها. لكن المطعم تأهّل للحصول على قرض في إطار مبادرات «البنك الأخضر»، وباشر تسديد الدَّين من التوفير الذي حققه في مصروف الطاقة والمياه.
على المستوى السكني، يشمل الدعم عزل الجدران والأرضيات والسطوح وتغيير زجاج النوافذ وتركيب المضخات الحرارية للتدفئة. لكنه لا يستثني أموراً كانت تُعد صغيرة لا تستأهل قروض البنوك التقليدية، مثل الاستبدال بأجهزة المطابخ والحمامات أخرى موفّرة للطاقة والمياه، وهذا متاح الآن من خلال قروض مخصصة لربّات البيوت.
حين لا تتضمن برامج الدعم آليات تكفل وصولها إلى الجميع، تقتصر الإفادة منها على القادرين. ولا تنحصر النتيجة في استثناء كثيرين من الفوائد، لأن الفقراء يدفعون غالباً الفاتورة عما يوفّره الأغنياء. إذ حين تدعم حكومات الاستبدال بأجهزة التدفئة العاملة على الغاز الطبيعي، أخرى تعمل بتقنية المضخّة الحرارية، مثلاً، تقتصر الفائدة على القادرين مادياً، تبقى نسبة كبيرة من الناس غير قادرة على تغطية المبلغ المتبقي. وفي غياب تخفيضات أكبر على أسعار السيارات الكهربائية لأصحاب الدخل المنخفض، تبقى الإفادة منها محصورة في القادرين. والنتيجة تحميل الارتفاع في أسعار الكهرباء والوقود على محدودي الدخل، غير القادرين على دفع كلفة التحوُّل. فالقادر على الاستثمار في ألواح شمسية على سطح منزله، وشراء سيارة كهربائية، وتركيب مضخة حرارية للتدفئة، يستفيد من كل الدعم، ويتخلّص من فواتير الغاز والكهرباء والبنزين المرتفعة، في حين يقع عبء الفواتير الضخمة على الفقراء لعجزهم عن تمويل الاستثمار في التغيير.
من جهة أخرى، تُغفِل بعض السياسات الحكومية حقائق واقعية لا يمكن تجاوزها، حين تحصر المبادرات في الأفراد وتهمل واجبها في توفير الخدمات العامة. فدعم الألواح الشمسية تقتصر فوائده على البيوت ذات السطوح الملائمة في الشكل والاتجاه، ولا يتناسب مع الأبنية المرتفعة ذات الشقق المتعددة. والمضخات الحرارية تحتاج إلى مساحات خارجية غير موجودة في كثير من الحالات. ولا تتوفر لكثير من البيوت والأبنية، بخاصة في المدن، أماكن مناسبة لتركيب أجهزة الشحن الكهربائي للسيارات. لهذا لا بد من الاهتمام بتعزيز الخدمات العامة وخفض تكاليفها، فتصل الفوائد إلى الجميع. ومن هذا القبيل تعزيز وسائل النقل العام العاملة على وقود نظيف، لتخفيف الحاجة إلى سيارات فردية. ومنه أيضاً توفير طاقة كهربائية مستدامة للعموم بأسعار تؤمّن توزيعاً عادلاً للأعباء، فلا تنحصر الاستفادة فيمن يملك سطحاً ملائماً لتركيب اللاقطات.
البرنامج الأميركي الجديد لإشراك المحرومين والفقراء في برامج التحوُّل المستدام، عن طريق مساعدتهم في الاستثمار، نموذج لتحويل النظريات إلى أفعال. وهذه هي الضمانة الوحيدة للنجاح، إذ لن تحقق برامج التحوُّل أهدافها ما لم تصل فوائدها إلى الجميع. ولكن لا يكفي أن تصحح الولايات المتحدة وأوروبا والدول الغنية سياساتها الداخلية، بتوفير الدعم اللازم لتصل فوائد التنمية المستدامة إلى جميع مواطنيها بلا استثناء. فالعمل البيئي، والمناخي على وجه الخصوص، لن يُجدي ما لم تنخرط فيه جميع الدول. وكما خصصت الولايات المتحدة عشرين مليار دولار لمساعدة مجتمعاتها الفقيرة على الانخراط في التحوُّل، فلتبادر إلى قيادة مبادرة دولية لتنفيذ تعهدات الدول الغنية للاستثمار البيئي والمناخي في الدول الفقيرة، التي يتوجب عليها أيضاً ترتيب بيتها الداخلي لوقف الهدر والفساد.
نرجو ألا تكون هذه أحلام يقظة، قد تتحطم على مذبح سياسات الأغنياء والبرامج الشعبوية المرافقة للانتخابات المرتقبة على ضفّتَي الأطلسي.
* نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»