من الذي يطفّش المستثمرين؟

يتكرر مؤخرا اتهام الحراك الأردني ، وبالذات نتيجة كشفه للفساد ومطالباته بمحاسبة الفسادين ، بأنه وراء "تطفيش" المستثمرين . ولبيان ما و من الذي "يطفّش" المستثمرين ، الفساد والفاسدين أم الصلاح والإصلاحيين ، نعود لذات المثال الذي أوردناه في مقالتنا السابقة ، وهو أكبر قضية فساد كانت تفجرت في العهد السابق ، لنبيّن ما واكبها من أسلوب "مافياتي" في التعامل مع المستثمرين كما مع الموظفين المحليين. وبقاء ذات قوى الفساد في السلطة ، بل وتزايد سلطتهم في العهد الجديد بحيث باتوا مسيطرين على الحكم تماما ، وهو ما يجمع عليه الشارع الأردني ، يعني حتمية تكرار إن لم يكن مفاقمة تلك الأساليب ، مما يؤدي لهروب أي مستثمر "حقيقي".

 

فتكشّف قضية الغزل والنسيج عام 1996(الشركة الحكومية التي كانت من ضمن ما أفلسه ماهر شكري ابن خالة زيد الرفاعي) جرى عند تسجيل مستثمر في الشركة قضية لدى المحاكم الأردنية. وما لم يتسع حيز المقالة السابقة لقوله هو أن المستثمر "محمد مهدي النابلسي" تعرض لمحاولة قتل "بالخنق" بعد أن تم استدراجه لاجتماع مزعوم لمجلس إدارة الشركة يحضر له الأوراق التي بحوزته ويعرف القائمون على الشركة أنها تدينهم. ولكن الرجل تمكن من الإفلات وعولج في مستشفى الخالدي من إصاباته. وقبل هذا دخل ثلاثة من المشتكى عليهم بيت موظف في المصنع استقال رافضاً تكليفه بإتلاف مكنات المستثمر بهدف إبعاده، إضافة لمكنات أخرى للشركة بهدف قبض عمولة شراء مكنات جديدة ، واقتحموا عليه حمام بيته وأجبروه، وهو عار تماما، على كتابة ورقة تبرر أعمال مدير المصنع.

 

وما كشفه التحقيق في القضية تجاوز عمليات اختلاس عديدة قام بها ماهر شكري، لكشف سلسلة من قضايا فساد لم تكن بالحسبان، مثل حرق مخازن في المنطقة الحرة لم يكن قد عرف من قبل أن من قاموا بها هم ذات المشتكى عليهم الذين سبق وأتلفوا مكنات وسرقوا قطع غيار المستثمر في شركة الغزل والنسيج التي يديرونها .

 

وهذه ليست إشاعات تهدف "لاغتيال الشخصيات" التي تتهم بها الحكومات المتعاقبة الصحافة المستقلة والحراك الشعبي، بل وكما اتهمهم الأمير حسن زاعما ان هذا الاغتيال مقدمة لزعزعة الاستقرار في الأردن، وما قاله الملك عبد الله الثاني نفسه مراراً تبريراً لطلبه وضع مزيد من القوانين لمعاقبة كاشفي الفساد (المادة 23 التي أجّجت الحراك وكتبنا عنها سابقا) .. محاولات القتل والتهديد به التي أوردتها هنا مثبتة في سجلات التحقيق القضائي وفي تقارير المستشفى الذي أسعف فيه المستثمر، ونشرت تفاصيلها حينها عدة أسبوعيات أردنية منها "شيحان" و "النداء".. ولم يجرؤ أحد على تكذيب ما نشر، ولكنهم جرؤوا على دفن القضية وعدم محاسبة المتورطين فيها، بل ومكافأتهم بمناصب وصفقات أخرى .. وجرؤوا على إنفاق المال العام على نعي من مات من الفاسدين بزعم أفضال له على البلد واقتصاده، ما شكل تقوية للفساد بإعلانات رسمية تبجّله !!

 

وقد التقيت الرجل الذي جرى اقتحام بيته، أواخر فترة نيابتي حين تكشفت تلك القضية. ومع أنني كنت أكثر نائب يستطيع مواجهة الحكومة في ذلك المجلس، فإن أقصى ما جرؤ عليه الرجل هو استقبالي من باب الإحترام، ولكنه رفض أن يتعاون معي بأكثر من تأكيد الواقعة الموجودة في نص شهادته في المحكمة، والتي كانت لدي نسخة منها. وكنت قد التقيته في بيته وبوجود أسرته التي بدت مذعورة وكأن هنالك من يراقبنا في تلك اللحظة ( وهو ما لا أستثنيه كوني لا أعرف أفراد الأسرة من غيرهم)، والقليل الذي قاله أفراد أسرته عبّر عن شعور مماثل بفقدان الأمان نهائيا..

 

وحتما سيتكشف مثل هذا حين يبدأ التحقيق الجاد والنزيه في ملفات الفساد القديمة والمستجدة بغزارة. ولكن أية عينة من ماضي أي بلد لم تصحّح تكفي لهروب المستثمر الحقيقي، وهو ما حصل .. ولكن الأخطر أن تلك الممارسات المتكررة ليومنا هذا، أدت لجذب نوع آخر من المستثمرين يتواطأ على النهب ودفن القضايا بتهريب المتهمين، بل واختفائهم كونهم لا يسجلون بأسماء وإنما في صكوك "لحامله" ، كما جرى لما لا يقل عن ثروة الأردن من الفوسفات .. وحين نعرف أسماءهم وجنسياتهم، كالذين نهبوا الكهرباء والميناء إلخ .. فإن الأمر يؤشر على استقواء خارجي على ثرواتنا شجعه استقواء مسؤولينا العلني عليها.