هل تدرك القوى الفلسطينية خطورة اللحظة على المستقبل الوطني..؟!

تواصل إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة للشهر السابع على التوالي دونما توقف، كما تواصل فرض سياسة النزوح، والتهجير لمن بقي صامدا في مدينة غزة وشمالها من خلال سياسة التجويع التي باتت أحد أدوات الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وترفض بشكل علني عودة سكان غزة وشمالها من النازحين إلى بيوتهم في كافة جولات التفاوض غير المباشرة مع حركة حماس، ليطرح التساؤل التالي: ما الذي تريد إسرائيل فرضه من وقائع على الأرض في غزة، ولماذا كل هذا التعنت في مسألة عودة النازحين إلى بيوتهم؟

الإجابة على هذا التساؤل تفرض علينا فهم ديناميات الفعل الإسرائيلي، والذي يستند عادة على سياسة فرض الوقائع وتثبيتها ومن ثم بدء النقاش حول مسألة التعامل معها، فإسرائيل التي سعت من البداية إلى تكرار النكبة الفلسطينية مرة أخرى من خلال فرض التهجير على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة باتجاه سيناء، واجهت موقفاً مصرياً رفض بشكل قاطع الاستجابة للمخطط الإسرائيلي الرامي إلى إفراغ الأرض من سكانها، وتصفية القضية الفلسطينية، واعتبر أن هذه الخطوة بمثابة مسألة أمن قومي تمس بالسيادة المصرية، وتهدد العلاقات المصرية الإسرائيلية والتي قد تصل إلى حد إلغاء اتفاقية كامب ديفيد بين الطرفين.


حاولت إسرائيل لاحقاً توظيف الوسائل الدبلوماسية من أجل الضغط على الجانب المصري من خلال مجموعة من الوسطاء لقبول القاهرة بتهجير السكان إلى سيناء، إلا أنها لم تنجح في ذلك أيضاً، الأمر الذي دفع إسرائيل تلقائياً للتفكير في بدائل عن مصر لإنجاح مخطط التهجير، والذي يمكن القول بأنه تراجع أمام الرفض المصري، ولكنه لم ينته.


شكلت غزة على الدوام صداعا مزمنا لإسرائيل حتى قبل احتلالها في العام 1967، حيث كان لغزة دور محوري في استعادة بناء الهوية الفلسطينية عقب نكبة أيار في العام 1948، من خلال إعلان حكومة عموم فلسطين آئنذاك، كما أن باكورة العمل الفدائي في خمسينات القرن الماضي كانت قد انطلقت من غزة، ثم أن ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينات القرن الماضي أيضا كان اغلب رموزها من غزة، أما في السبعينات فكان لمجموعات الفدائيين في غزة دوراً كبيراً في ازعاج إسرائيل عقب النكسة، وفي ثمانينات القرن كانت ولادة الانتفاضة الكبرى انتفاضة الحجارة من مخيمات القطاع، الأمر الذي جعل من غزة مصدر قلق دائم لإسرائيل، وهو ما عبر عنه أحد الجنرالات الكبار في تاريخ دولة إسرائيل ورئيس وزرائها الأسبق إسحاق رابين الذي تمنى أن يبتلع البحر غزة للتخلص من صداعها المزمن.


كما أن غزة كمدينة تقع في نقطة تقاطع لقوتين اقليميتين، هما، مصر التي تعتبر أمنها القومي يمتد ليصل حتى جبال الخليل، وإسرائيل التي ترى أمنها القومي يمتد ليصل إلى قناة السويس، أما العامل الثالث فيتمثل في خصوصية غزة التي يشكل اللاجئون فيها أغلبية ساحقة حيث يبلغ 75% من إجمالي سكانها من اللاجئين، وهم يمتازون بخاصية عن باقي اللاجئين في باقي أماكن اللجوء بالضفة والشتات، وهي أن اللاجئ الغزي يستطيع أن يرى بالعين المجردة قراه الأصلية التي هجر منها أباءه وأجداده، الأمر الذي يعني بقاء الهوية الفلسطينية حية لا تموت.


عوامل متعددة تدفع إسرائيل إلى ضرورة التخلص من سكان قطاع غزة، عبر دفعهم للهجرة والنزوح، لذلك تبنت إسرائيل منذ اللحظات الأولى لعدوانها الشامل على قطاع غزة ومقاومته ضرورة فرض التهجير للتخلص من الديمغرافيا الفلسطينية مرة واحدة وللأبد، وهذا لن يتأتى إلا من خلال اغتيال الحياة بكافة أشكالها وصورها ومقوماتها في مدينة غزة، التي كما أشرنا تعتبر عصب الحياة والشريان الرئيسي لسكان القطاع كافة.


بدأت إسرائيل في اتباع سياسة ممنهجة ومرسومة بدقة فائقة باستهداف البنية التحتية من شبكات طرق، وشبكات صرف صحي، وإمدادات المياه والكهرباء والاتصالات، ومن ثم انقضت دون رحمة على القطاع الصحي واستهدفت كافة المستشفيات، ومن ثم المؤسسات التعليمية وخصوصا الجامعات، حيث دمرت إسرائيل كافة الجامعات في قطاع غزة. ولم تتوقف عند هذا الحد بل ذهبت إلى توظيف سلاح التجويع في مدينة غزة وشمالها لدفع من تبقى من السكان للنزوح نحو الجنوب عنوة أمام شدة الحصار الذي تفرضه على إدخال المساعدات إلى المدينة، واستهداف طوابير المواطنين ممن ينتظرون يوميا أي شاحنة مساعدات تدخل للمدينة، كما حدث على دواري الكويت والنابلسي جنوب المدينة.


يشير حجم الدمار المهول الذي تشهده مدينة غزة وشمالها ولا تزال إلى أن الخطة الإسرائيلية الرامية إلى افراغ الأرض من سكانها باتت واضحة للعيان، وأن التخلص من العبء السكاني والديمغرافي هدف إسرائيلي واضح المعالم تحاول معه إسرائيل تقليص عدد سكان المدينة إلى أقل عدد ممكن، من خلال دفع السكان لاستبدال التهجير القسري لآخر طوعي من خلال اغتيال الحياة على الأرض.


في المقابل لم يطور الفلسطينيون استراتيجية مواجهة حقيقة للأهداف الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، واقتلاعه، وفرض التهجير عليه كأمر واقع، حيث لا تزال الحالة الفلسطينية عاجزة على تخطي حالة الإنقسام المزمنة، والذهاب إلى تبني سياسات تعزز من صمود المواطن، وتكرس الوجود على الأرض في مواجهة الاقتلاع، فتركوا الناس عرايا في مواجهة السياسات الإسرائيلية، دون حول أو قوة، ينتظرون وقف الإبادة، أو يبحثون عن طرق للنجاة منها بأي ثمن كان، حتى وصلت تكلفة الخروج من غزة خمسة آلاف دولار للشخص الواحد، الأمر الذي دفع العديد من المواطنين للبحث عن مصادر تمويل للخروج، أو ابتياع أملاكهم حتى يتمكنوا من الخروج من جحيم غزة.


ربما لا تدرك القوى والأحزاب الفلسطينية خطورة اللحظة على المستقبل الفلسطيني برمته، ولا تزال تتعامل مع الموقف بمنطق انقسامي وفئوي ضيق، حيث لم تنجح المقتلة والإبادة الإسرائيلية حتى اللحظة في دق جدران خزان الخطر الذي بات يهدد مستقبل القضية الفلسطينية، كما يهدد بقاء واستمرارية تلك الأحزاب في ضوء فشلها في مواجهة الهجمة الإسرائيلية والتصدي لها، الأمر الذي قد يفضي في المستقبل إلى أفولها، وولادة جديدة لم تتضح معالمها بعد...!