الظلم مؤذن بخراب العمران .. هل بات معيار الكفاءة والأمانة خبرا لكان؟!

هذا العنوان لمقالتي هذه اقتبسته من فصل عقده ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الشهيرة وكان بعنوان [ الظلم مؤذن بخراب العمران].

هذه النتيجة سنة الله في هذا الكون، فقد سمى الله نفسه "العدل" ولم يرض بغيره بين خلقه، وتوعد الظالمين بسخطه، وحرم الظلم على نفسه وبين عباده فقال: "ياعبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، ياعبادي فلا تظالموا ... الحديث".

ورتب على العدل جزاء، وعلى الظلم جزاء، -بغض النظر عن هوية فاعله- فمن أقام العدل نصره الله، ومن رفع راية الظلم خذله الله.

والله يعاقب المسلم الظالم قبل غيره، وينصر غير المسلم العادل، فلا غرابة أن ترى الخذلان للمسلم الظالم في الدنيا، وأما يوم القيامة فيوفى كل منهم جزاءه على ماقدم عدلا أو ظلما.

ومن لطائف ما وقفت عليه في هذا الباب ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (الحسبة) وهو قوله: " الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" اهـ.


كلام يكتب بماء الذهب ...

يؤكده الواقع والحاضر، ولا أدل على ذلك مما نراه في الدول غير المسلمة في الغرب والشرق من تقدم وقوة، وما ذاك إلا بما يشيعونه من عدل بين رعاياهم، فالكل بينهم أمام القانون واحد، ويقف القانون من الجميع على نفس المسافة، أما في وطننا العربي - وللأسف- فسترى كل مظاهر الظلم والواسطة والمحسوبيات واكل حق الغير بأوهى الحيل والتبريرات السمجة التي يراد من خلالها لبس الحق بالباطل، وهي سمة اشتهرت بها يهود حتى قال الله في بني إسرائيل: "لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون".

بل قال سبحانه:" يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون".

في الولايات المتحدة الأمريكية -على سبيل المثال- يحظر القانون الفيدرالي على موظفي الحكومة توظيف أحد أفراد عائلاتهم، في حين لا يعتبر ذلك مخالفة قانونية في القطاع الخاص.

لذا فإن من يفعل ذلك من الموظفين، أو حتى يسعى لمنح أقاربهم ترقيات على حساب بقية الموظفين سيواجه دعاوى قضائية بتهمة التمييز. وهو عين مايجري في بريطانيا أيضا.

أما في وطننا العربي وفي دولنا الإسلامية فلا زال الرجل يحارب من أجل قريبه كي ينال ماليس له جهارا نهارا وفي رابعة النهار، على مرأى ومسمع من الجميع دون حياء أو خجل.

المحسوبية والفساد في دولة كالصين كارثة عظمى، وتتولى مؤسسة الرقابة الحكومية لمكافحة الفساد موقفا صارما من ذلك، وتركز على أصحاب النفوذ الذين يتحكمون في المؤسسات الكبرى.

لاتستهينوا بالآثار المدمرة على استباحة إدارة مؤسسات كبرى حكومية أو حتى استثمارية من خلال الوساطات والمحاباة ! .. تقرير عام ٢٠١٤ للاتحاد الأوروبي الخاص بمكافحة الفساد أظهر أن 67٪ من المستثمرين يرون ذلك مشكلة خطيرة بل غاية في الخطورة. وهو ما أودى باليونان حتى أعلنت إفلاسها.

عزوف المستثمرين الأجانب قد يكون نتيجة مباشرة لمثل هذه الممارسات.

بل من نتائجه هجرة الكفاءات وأصحاب المؤهلات الشباب الذين فاتتهم فرصة خدمة بلدهم كنتيجة حتمية لهذه الممارسات الظالمة.

أحد أصحاب شركات العقارات في إيطاليا (غابريل سبالبي) يؤكد أن هذا الفساد هو مايجري في إيطاليا، ولكي تحصل على وظيفة هناك فلن تحتاج إلا إلى علاقة وطيدة ببعضهم.

وفي مثل هكذا وضع فياحسرة على حال الخريجين الجدد ممن ليس لهم علاقات ... طبعا سيبقون في ظلمات الشوارع أو تتلقفهم الدول الأخرى بأرخص الأثمان.

موظف قليل الكفاءة يصبح مسؤولا لأنه مدعوم، وصاحب الكفاءة مركون هناك في ظلمات وعتمات المكاتب أو الأزقة، والنتيجة سلبية حتمية على التقدم والرقي، وغلق أي آفاق استثمارية جديدة لتقلل من حجم البطالة في الدولة.

تقول جين صنلي - مؤسسة شركة "بيربل كيوبد" في لندن -: "اذا كان المؤهل الوحيد للموظف هو اسم عائلته، فهذا يعني أن ذلك سيكون على حساب الأشخاص الذين يتمتعون بخبرة ومهارة أكبر منه في أداء واجبات الوظيفة، وبالتالي يحرم هؤلاء فعليا من الدخول إلى سوق العمل".

ونحن المسلمين نعلم أن هذا من الظلم والخيانة ووبال ذلك سيكون عظيما في الدنيا والآخرة.

إذا ضاق بك ذرعا تفشي المحسوبية، فأين تعيش؟ بامكانك أن تنضم إلى الأشخاص الذين يهاجرون للعمل في بلدان لا تعتبر فيها المعارف والعلاقات هي أساس الاختيار. هذا ما فعله سبالبي نفسه خلال فترة الركود الاقتصادي عام 2008، إذ أنه غادر إيطاليا ليؤسس شركة عقارات جديدة في المكسيك.

عزيزي القاريء ..

إن وقف الحال على ما ذكرنا من نتائج لهان الخطب، لكن قد تكون النتائج أعظم من ذلك بكثير.

وأختم بهذا النص من كلام الإمام ابن كثير في حوادث سنة خمس عشرة وستمائة معلقا على فعل بعض الأمراء يومها ممن أشاعوا الظلم بين الناس وأيدوه ونصروه فقال:

"فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال فيولون بسببه الأدبار، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني. وهذا ظاهر لا يخفى على فطن'. اهـ.


لقد شدد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين على قضية مفادها:

[ التحديث السياسي والاقتصادي لا يكتملان دون إدارة عامة كفؤة].

وأشار جلالته إلى [ أن هذا الوطن، الذي تأسس على مبادئ العدالة والكرامة الوطنية، يمضي بمسيرته في التحديث تحت سيادة القانون، الذي يجب أن يطبق على الجميع وأن يعمل من أجل الجميع].

فإن كان ثمة عيب فليس في زماننا .. بل العيب فينا .. حين نعمد إلى الحق الأبلج فنخالفه، وإلى الباطل اللجلج فنمرره ونبرره. وما هذا إلا فاتحة شر عظيم تذر البلاد بلاقع لا قدر الله.

حمى الله الأردن.