توثيق وقائع العدوان

العدوان الهمجي الذي يشنّه الصهاينة على قطاع غزّة والضفّة الغربيّة ليس عدواناً عسكريّاً فقط، بل هو عدوان متعدّد الأهداف والأشكال والأبعاد من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسكّانية وغيرها، ولذلك وجب على كلّ متخصّص في أيّ مجال من المجالات أن يوظّف تخصّصه لمواجهة هذا العدوان في الجبهة التي تناسب تخصّصه، فالسياسي يواجه العدوان بأدواته السياسيّة، والاقتصادي بأدواته الاقتصادية، والعسكري بخططه ووسائله العسكرية، والطبيب بوسائله الصحيّة، والمؤرّخ بسلاحه العلمي والتعليمي، وعالم النفس بأدواته النفسية، والإعلامي ب?سائله الإعلاميّة، والمثقّف بأدواته الثقافية التي لا تحصى من شعر وقصّة ومقالة وبحث ودراسة، والفنان بوسائله ذات التأثير الكبير من أغنية ولحنٍ ومسرحية وأفلام وتمثيل ورسم وتصوير ونحت وغير ذلك.

ولهذا فإنني أرى أنّه لا حجّة لأحدٍ من الناس أبداً في عدم المشاركة في التصدّي لهذا العدوان في الجبهة التي تناسب تخصّصه ومجال اهتمامه.

وللثقافة دورٌ غير محدود على المدى القريب والمدى البعيد. وإنْ عجز المثقّف أو الباحث أو الأستاذ الجامعي عن التصدّي لهذا العدوان في مجال من المجالات أو أكثر فلا بدّ له من منفذ يقوم من خلاله بواجبه الوطني والإنساني والقومي.

ومن أهم واجبات العاملين والمنخرطين في القطاعين الثقافي والتعليمي في هذه الظروف غير المسبوقة وهذا العدوان الهمجي المنقطع النظير العمل على توثيق وقائع هذا العدوان بكلّ تفاصيله مهما صغرت أو كبرت توثيقاً لا يدع صغيرة ولا كبيرة، تسجيلاً لهذه الأحداث وإثباتاً للحقائق وحفاظاً عليها وتسهيلاً على الأجيال اللاحقة في معرفة تاريخ هذه الأمّة في حقبة مظلمة من الزمن، وإخضاع هذه الحقائق للدراسة والتحليل والاستفادة منها.

وليس عسيراً على أيّ مثقّف أو باحث أو أستاذ جامعي أو مؤرّخ أن يختار جانباً محدّداً أو جزئيّة بعينها من وقائع هذا العدوان ويقوم بمتابعتها وتوثيقها ثم نشرها لاحقاً، وما أكثر الجزئيات والتفاصيل التي نجمت عن هذا العدوان ويمكن أن يكون كلّ واحد منها مجالاً للتوثيق. كما أن وسائل التوثيق أصبحت ميسّرة بشكل كبير ومتنوّعة من فيديوهات وأفلام وصور وتسجيلات صوتية وأخبار وتقارير منشورة في الصحف وعبر وكالات الأنباء المختلفة، ممّا يسهّل على الباحثين والمؤرخين والمثقفين الحصول عليها وتدوينها وتوثيقها بالزمن والمكان والأشخاص ?غير ذلك.

إنّ من الجرائم والممارسات الصهيونية الموغلة في البشاعة ما لا يجوز إغفاله أو نسيانه أو غضّ الطرف عنه أو إبقاؤه دون توثيق، ليكون مثل هذا التوثيق في مقبل الأيام مستنداً ومنطلقاً لمحاسبة المجرمين على جرائمهم وليكون الحساب متناسباً مع حجم كلّ جريمة ونوعها وأثرها.

وفي داخل العناوين الكبيرة للجرائم الصهيونية من قصفٍ وقتل جماعي وتدمير واقتحام للمستشفيات وقصف للمدارس والمساجد والجامعات وتهجير وتشريد وإذلالٍ وتجويع وتعطيش وحرمان من الدواء والعلاج ومنع لإسعاف المصابين ومنعٍ لدخول المساعدات الإنسانية وغير ذلك كثير، وفي داخل كلّ عنوان من هذه العناوين الكبيرة عناوين فرعية لا تحصى وتفاصيل يشيب لها الرأس تستحق كلّها التوثيق التامّ. وهذه مسؤولية كلّ من يستطيع التوثيق من أهل الثقافة والبحث والتاريخ والتعليم.

ومن أهمّ ما ينبغي أن يلتفت إليه من يقوم بالتوثيق أن يحرص على توثيق كلّ حدث أو واقعة لحظة وقوعها وأن لا يؤجّل توثيقها، لأنّ التأجيل يعرّض المعلومات الموثّقة لعدم الدقّة في بعض تفاصيلها.

إنّ توثيق جرائم العدوان الصهيوني وتبعاته على غزّة والضفّة الغربيّة هو واجبٌ وطني وقومي وإنساني وعلميّ يجب عدم التقصير فيه أو تأجيله أو الاستهانة بأهميته حاضراً ومستقبلاً، وهو أضعف الإيمان من الجهود المطلوبة لمواجهة العدوان ومقاومة الاحتلال.