ملاذ آمن أم عبء جديد؟.. البنوك المركزية تراهن على الذهب

في خضمّ الأزمات المالية والتضخم الذي يجتاح اقتصادات العالم، وجدت البنوك المركزية ملاذًا آمنًا في المعدن الأصفر "الذهب".

ففي ظلّ تذبذب الدولار الأمريكي، العملة العالمية المهيمنة، اتجهت البنوك المركزية حول العالم، إلى تعزيز احتياطياتها من الذهب بشكل ملحوظ، كاستراتيجية جديدة للتنويع بعيدًا عن سيطرة الدولار.

وبحسب تقارير مجلس الذهب العالمي، ارتفعت مشتريات البنوك المركزية من الذهب خلال عام 2023، إلى أعلى مستوياتها في عقود، إذ بلغت 1037 طنًا، مُتجاوزةً بذلك الرقم القياسي لعام 2022.

وتصدرت تركيا والهند قائمة الدول الأكثر شراءً للذهب، بينما سجلت الولايات المتحدة انخفاضاً في احتياطياتها من المعدن النفيس.

الخوف من الانهيار

ورأى الخبير الاقتصادي، الدكتور أنور قاسم، أن المخاوف من الأزمات الاقتصادية في الولايات المتحدة، وارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ سنوات، دفعا البنوك المركزية إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب.

وأوضح لـ"إرم الاقتصادية"، أن هذا التحرك يعكس مخاوف حقيقية من انهيار الدولار، العملة التي تُشكل عصب النظام المالي العالمي.

وفي خطوةٍ تعكس رغبةً واضحةً في تنويع احتياطاتها من العملات الأجنبية، واصلت الصين رحلتها لتعزيز احتياطاتها من الذهب، لتصل إلى مستويات قياسية لم تشهدها البلاد منذ عقود.

وبحسب تصريحات الخبير الاقتصادي، فإن هذا السيناريو ليس بجديد على الساحة العالمية، إذ لجأ العديد من البنوك المركزية إلى اتباع استراتيجية مشابهة، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي.

وأشار "قاسم" إلى أن البنك المركزي الصيني، نجح خلال العام الماضي، في تعزيز احتياطاته من الذهب بشكلٍ ملحوظ، إذ اشترى ما يقارب 225 طنًا من المعدن النفيس، خلال 16 شهراُ على التوالي.

وشهد شهرا يناير وفبراير من العام الحالي، مزيدًا من عمليات الشراء، إذ اشترت الصين نحو 22 طنًا من الذهب، ليصل إجمالي الاحتياطي لديها إلى 2257 طنًا، وبلغت قيمة احتياطيات الذهب الصينية، نحو 146 مليار دولار في نهاية العام الماضي، وهو ما يعادل 75 مليون أوقية.

وتزامنت هذه الزيادة في احتياطيات الذهب، مع ارتفاع قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 2.5%.

مخاطر "التقلبات" و"التضخم"

في ظل التقلبات الاقتصادية المتزايدة، وارتفاع التضخم بشكل جنوني، تبحث البنوك المركزية عن ملاذ آمن، لحماية احتياطاتها من المخاطر.

وبحسب الكاتب والمحلل التركي، أوكتاي يلمز، فإن "الذهب أصبح ملاذًا آمنًا للبنوك المركزية، إذ يوفر لها الحماية من التقلبات التي تشهدها الاقتصادات الكبرى والناشئة".

وأكد لـ"إرم الاقتصادية" أن "الذهب قادر على الحفاظ على قيمته على المدى الطويل، على عكس العملات الورقية التي تتأثر بالتضخم بشكل كبير".

وأضاف يلمز أن "امتلاك احتياطيات كبيرة من الذهب، يعزّز الثقة في الاقتصاد والنظام المالي للدولة، ما يجذب الاستثمارات الأجنبية ويُحفز النمو الاقتصادي".

وتوقع الخبير الاقتصادي التركي،ارتفاع قيمة الذهب العالمي خلال الفترة المقبلة، مُرجعًا ذلك إلى استحواذ الصين على نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي للذهب.

وأوضح أوكتاي أن "النظام المصرفي العالمي، يواجه حاليًّا أزمات بسبب هيمنة الدولار، ما دفع نحو 10 دول كبرى، على رأسها تركيا، إلى شراء كميات كبيرة من الذهب".

وفي العام الماضي، اشترى البنك المركزي التركي كميات كبيرة من الذهب، ما تسبب في رفع احتياطياته من المعدن النفيس إلى 498 طنًا، ووُصف هذا التوجه بأنه أحد العوامل، التي ساعدت الليرة التركية على الصمود أمام الدولار، في وقت كادت تنهار أمامه في الربع الأخير من العام الماضي.

مخاطر مالية

وتشهد احتياطيات الذهب لدى البنوك المركزية حول العالم انتعاشًا ملحوظًا، مدفوعةً برغبة هذه المؤسسات في الحفاظ على قيمة عملاتها المحلية، في ظل الاضطرابات التي يعانيها النظام المالي العالمي.

وتعكس هذه الخطوة، بحسب المحلل الاقتصادي وخبير المخاطر المالية، محيي الدين قصار، سعي البنوك المركزية لتوفير ملاذ آمن، من تقلبات العملات وارتفاع التضخم، إذ يُنظر إلى الذهب كمخزن للقيمة على المدى الطويل.

لكن قد يكون لهذه الخطوة تبعات على سوق الذهب العالمي، إذ يتوقع "قصار" أن يؤدي ازدياد الطلب على المعدن الأصفر إلى ارتفاع سعره خلال الفترة المقبلة.

وحذر الخبير، في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية"، من أن "هذا الارتفاع قد يُخل بالتوازن في السوق ويُعيق استقرار الأسواق والتداولات، مما قد يُشكل عبئًا على بعض الدول التي تعتمد على استيراد الذهب".

وفي ظاهرة لم تشهدها الأسواق منذ عقود، سجل الذهب خلال الربع الأخير من العام الماضي، أعلى مستوياته على الإطلاق، مُتجاوزًا حاجزًا تاريخيًّا لم يُلامس منذ خمسين عامًا.

ويعزى هذا الارتفاع الصاروخي، بحسب محيي الدين قصار، إلى هروب جماعي من العملات الرئيسية، خاصةً الدولار الأمريكي باتجاه الذهب، وسط مخاوف متزايدة من انهيار النظام المالي العالمي.

وتأتي هذه التطورات في ظل تغيرات جيوسياسية متسارعة تشهدها دول العالم، من حروب ونزاعات تجارية إلى صراعات سياسية، ما يُضفي المزيد من الضبابية على مستقبل الاقتصاد العالمي.

ويتوقع الخبراء أن تستمر هذه التغيرات خلال السنوات المقبلة، ما قد يُفاقم من عدم الاستقرار المالي، ويُعزّز من جاذبية الذهب كأصل استثماري آمن.