غزة الوجع مرة أخرى ....
الكل بالانتظار، وهم بانتظار طال أمده، وحفظنا الأسماء كلها، لتلك الحواري والاحياء، وأصبحنا ننتظر لحظة الخلاص من التمترس أمام الشاشات لالتقاط الخبر القادم من هناك، وصار السؤال المكرر مزعجا، متى ستنتهي الحرب؟ وكيف ستنتهي الإبادة ؟؟ والى متى سيظل هؤلاء جوعى وبالانتظار؟
أيها السادة هل حفظتم الأسماء؟ بيت حانون وبيت لاهيا والدرج والزيتون، والشجاعية وجحر الديك وجباليا، وغزة المدينة، وشارع المختار، وعبسان الكبيرة، ودير البلح والنصيرات والمغازي، وخانيونس، والمُنتظرة رفح .. هل حفظتم الأسماء ؟ هل أدركتم ما هية المذبحة، والمعنى الحقيقي للجوع والتجويع والركض خلف السراب؟ هل أدركتم معنى معاناة صبية بمتقبل عمرها حينما يداهمها وجعها الشهري ؟ وتبحث عن رذاذ السماء ليكون لها ما يمكن ان يكون.
يا سادة التنظير والتحليل والقول والكلام الكبير هل رأيتم الطفلة اللاهثة بأزقة الموت تلك، طفلة تبحث عن قطتها لتقول لها عند موتي لا تنهشي لحمي الملقى بالشوارع ، لا تأكليني ، وحاولي ان تسدي رمق جوعك من أشلاء غيري.
غزة يا وجع القرن وقد أصبحت منسية، برغم حضورها القسري والاجباري، يتم تجاهلها وتمضي لياليها بصمت، وصراخاتها صارت مزعجة بأعراف كل الجيران، وصارت تسمى عاصمة الفقراء والجوع، واضحت عاصمة عواصم امراء امارة الدين الجديد المُنتشر هناك بالبيداء العربية ، وقد يبتلعها البحر، ولم يعد لها ناصر او منتصر، وهي اليوم وحيدة بوجه قرارات وفرمانات صادرة عن "الباب العالي"، ومطلوب منها الإنصياع للأمر والأوامر، بصرف النظر عن الآمر، وهي الجريحة تنتظر القرار القادم من كل عواصم القرار والهامشية أيضا ، ومن نبض الضفة الغربية، نصفها الأخر وما من مجيب، وغزة تزحف نحو البحر لتحقيق النبوءة الكبرى بفعل الابتلاع، كونها كانت العصية على العدوان وظلت بالعربية ناطقة بلهجة فلسطينية وطنية بعيدة عن تجاذبات الأمراء هنا وهناك، وقاومت العدوان ومزقت رايات الاستسلام، وارتضت بشرعية بنادق الثوار، وكانت الوفية لنداء الاحرار من احراش جرش وعجلون الى ملحمة الصمود ببيروت، وكانت المحتضنة لهم حينما عبروا الوطن لأول مرة وشكلت الحضن الدافىء لمن ضاعت هويته بعواصم التبعية والقرار.
غزة الفريسة واللقمة السائغة على موائد اللئام، والرقم السهل في حسابات الارقام باتت تئن تحت وطأة الجوع والتجويع وكأن ثمة قرار بمكان ما بضرورة الخلاص من غزة وغبار سنينها.
غزة باتت اليوم منكفئة على ذاتها تحاول ان تنهض من انكسارها ، غير مصدقة ما يجري تحت جنح ليلها وفي ازقة حواريها ومصادرة هويتها واحالتها الى كم مهمل، بعد ان تم لفظها في الوادي السحيق ممن يدعي بأبويتها.
الا ان غزة قد ادركت الحقيقة ومارست أحقيتها بتلك الحقيقة (فقد تعلمت وادركت غزة ومنذ البدايات ان الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه، وان على المرء ان يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد) وغزة تريد وتريد، تريد حريتها وتريد عيشها بأمن وآمان وتريد كرامتها وترفض ان تصبح مفردة في خطابات المناكفة وتصفية الحسابات.
هل من حق جماهير قطاع غزة المسلوب الأرادة والضائعة هويته والذي اضحى بلا عنوان او هوية، المباشرة باتخاذ خطوات لقلب معادلة التكوين الجديدة بهدف إعادة ما تم اقتطاعه من كرامتهم وعيشهم؟ ولإسماع صوت المعاناة التي باتت تطال الكل بأرض النخيل، والقابع ما بين حكم الإمارة هناك وحاكمية السراب هنا، جماهير غزه التي باتت منفصلة عن نبض العالم وعن الضفة الغربية في ظل التغني بالوطن، والوطن قد صار قابلا للقسمة والانقسام، وهذه الحقيقة التي تكاد تكون الحقيقة الواحدة الوحيدة في ظل حسابات اللحظة الراهنة.
هل من حق هؤلاء ومن يقف خلفهم من ابناء وبنات واحفاد وزوجات وأنساب واصهار المجاهرة بالإحتجاج على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية وحتى الطبقية التي ينتمون إليه؟ أم أن مثل هذه الخطوات والتحركات تندرج في إطار الخطوات السياسية من طرف ضد طرف آخر، والتي قد يُقال عنها مناكفات واستغلال لمن يقف ضد شرعية اللحظة والمنصة، بمعنى أنها مجرد خطوات سياسية استثمارية خدمة لفريق سياسي، على حساب الفريق السياسي في اطار قطبي معادلة الصراع ؟ أم انه من حق (المجتمع الغزي) والذي بات بأغلبيته المطلقة يعيش بانتظار الموت والحرق والقتل ان ينتفض على الكل، وان يصرخ بوجه الكل ، حكومة وشعبا ومقاومة ؟
لاشك أن الغضب الذي يعتمر بالداخل الغزي، والكامن بثنايا لحظاتهم في القطاع المنكوب بأكثر من نكبة، له اكبر الدلالات التي من شأنها أن تعاود طرح المسائل الفلسطينية الداخلية من جديد على طاولة البحث الفصائلية والتنظيمية، التي لطالما كانت قد تغنت أنها من الشعب والى الشعب وأنها خادمة لهذا الشعب، فهناك حقائق يجب تداركها أولا، بأن الجماهير الرابضة تحت نير الاحتلال لا يجوز بالمطلق أن تتحول إلى خادمة لهذه التنظيمات، وان يتم زجها في أتون صراعاتها وخلافاتها، سواء أكانت تلك الأيدولوجية أو السياسية او حتى تلك السلطوية ومراكز النفوذ والقوى وصراعات الأضاد ما بين قبائل وزعامات منصة القول وجعجعة الكلام، وان كانت من ذات المنصة الواحدة. من هنا يجب اكتشاف المعادلة التي من شأنها أن تحكم حقيقة واقع الجماهير بالمسألة التنظيمية وبالقضية الوطنية عموما وبالمسألة المعيشية، وتوفير مقومات الحياة والصمود، وان لا تتحول التنظيمات والأحزاب والتكتلات السياسية، وحتى المقاومة إلى عبء على هذا الشعب، بمعنى أن هذه القوى والفعاليات يجب أن تبتدع الوسائل والأساليب المتوافقة والمنسجمة وواقع الجماهير، وتجنيبها المأساة والمعاناة في المسائل الحياتية اليومية، وإلا فإن الكارثة ستكون شديدة حينما يتحول الصراع مع لقمة العيش إلى هم يومي يشغل بال كافة القطاعات الجماهيرية، ويأخذ الحيز الأكبر في الحركة الشعبية الجماهيرية في ظل الأوضاع السياسية السائدة، وتواصل الفعل الإحتلالي بكافة أشكاله القمعية وتعدياته الصارخة على البشر والحجر.
إن الحقيقة الصارخة والواضحة والوحيدة التي يجب مواجهتها، أن المعاناة الحياتية لم تجبر الشعب الفلسطيني على أن يستسلم أو أن يرفع الراية البيضاء، أو أن يتنازل عن حقوقه وثوابته أو أن يتعاطى والأطروحات الاستسلامية هنا أو هناك، ولكن بالمقابل وجد نفسه في خضم الصراع الأكثر قسوة والقاضي بتجويعه وكسر ارادته، من خلال استهداف مقومات حياته، وبالتالي صموده، ووجد نفسه بذات الوقت أمام قيادة فلسطينية وعلى مختلف تنوعاتها وانتماءاتها ومشاربها وتوجهاتها وتلك الرسمية، ومن تدعي انها فصائلية، وحتى ممن يتربعون على عرش مؤسسات المجتمع المدني عاجزة عن إخراجه من أتون المراهنات على التجويع والتركيع.
----------------------
فكان الفشل الذريع لكل البرامج السياسية والاجتماعية التي من شأنها أن تتلاقي وتتفاهم على الحد الأدنى مما يمكننا اعتباره تقديم العون والمساندة والمساعدة لهذه الجماهير، التي قالت كلمتها ألف مرة، ومن هنا جاء هذا الغضب لجماهير الجوع والمساس بالقوت اليومي في غزة، والذي يجد نفسه بجزيرة معزولة عن باقي مكونات الوطن المسلوب الارادة، ورام الله واخواتها قد تتضامن لساعتين من الزمن برفع شعارات هزيلة، بتجمع هزيل على دوار المنارة، ليوجه رسائله بأكثر من اتجاه وبشكل أساسي نحو العالم بكافة مؤسساته وتشريعاته التي تدعي العدالة وشرعة حقوق الإنسان، كونها تشارك في جريمة إنسانية من الطراز الأول، كون هذا الشعب قد مارس حقه بالتعبير عن ذاته، من خلال ممارسة ما يسمى بالفعل الانساني المستند للحق بالحياة وبمقاومة الغاشم، وبديمقراطية معايشة اللحظة والتعبير عن الذات والتوق للانعتاق من الاستبداد والاحتلال الذي يبدو انه كذبة كبرى إن لم تأتي نتائجه وفق رغبات رعاة الإمبراطورية الكبرى في العالم (أمريكا) وربيبتها إسرائيل. قد يكون شكل التحالف الراهن هو الاوضح، هذا التحالف بقطبي معادلة حصار غزة وقتلها وابادتها ما بين الاحتلال والتجويع من قبل اولي الأمر بالصدفة.
ومن هنا فإن هذا الغضب المتطور والمتدحرج، وكأنه أراد أن يقول أن الفلسطينيين على استعداد لقلب الطاولة من جديد، وإعادة خلط أوراق اللعبة، إذا كان المُراد التركيع والتجويع للكل، وهو إنذار اعتقد انه ما قبل الأخير بهذا الاتجاه وإلا فإن ثورة الجياع ستكون شاملة وبكافة الاتجاهات.
والرسالة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى ، أن هذا الغضب انما يوجه الإنذار المباشر للجميع بتحمل مسؤولياتهم والكف عن المزايدات، وإدارة شؤون المسماة بالدولة، وفقا لإرادة جماهير الفقر والجوع والمنطق الوطني، ووفقا لمفاهيم ادارة (الدولة) لا ان تتم ادارتها وكأنها ادارة لجمعية خيرية، وان على الجميع، واقول الجميع، الإدراك بأنهم في الوقت الذي ارتضوا فيه الدخول إلى الملعب السياسي الرسمي، فلا بد أن يكون التعاطى وقوانين هذا الملعب على أساس الثوابت الوطنية غير القابلة للتفريط ، ولابد من مغادرة الملعب في لحظة تاريخية، ان كان هذا الملعب منقلبا ومنفلت القوانين ، واعادة الفعل الوطني وفقا لقوانين مرحلة التحرر الوطني، وتوجيه الغضب نحو بوصلته الحقيقة، وإستثماره في الاطار العملي، لتحقيق الهدف بحق تقرير المصير، وبالحق بالعيش بكرامة وبعدالة اجتماعية، انظلاقا من الفهم الموضوعي والعملاني لمرحلة التحرر والتحرير الوطني، وغزة تدرك هذه الحقيقة، ولا بد من الادراك ان غزة متأهبة للحرب وللسلم، وللحظة الفارقة والفاصلة، وغزة أدركت معادلة ساسة الاحتراف اللحظي، وأيقنت ان الساسة (إن تخاصموا أفسدوا الزرع، واذا تصالحوا أكلوا المحصول)، بالتالي يا ساسة الصدفة واللحظة، من يسار اليسار المرتجف إلى يمين اليمين الخانع وما بينهما.. إرحلوا.