حياة اليهود الاقتصادية في الأندلس
يعمل اليهود بالتجارة والربا والأمور المالية لأن طبيعتهم كذلك، وقد مارسوا التجارة في الأندلس بشكل واسع، وصدرت فتاوي تبيحها بين المسلمين وبينهم، إذ أورد الونشريسي أن الرجل «إذا اشترى وباع من اليهود على ما يجوز شرعاً ولا يعمل معه بربا ولا بوجه لا يسوغ الشرع فذلك حلال طيب سائغ»، وكان ما أورده الونشريسي إجابة على سؤال: «هل تجوز معاملة اليهود بالبيع والشراء والاستدانة منهم أم لا؟»
وكانت الأندلس سوقاً رائجة للتجارة الداخلية والخارجية، إذ كان يغلب عليها الرخاء والرخص والسعة في جميع أحوالها، وكانت المراكب التجارية الصادرة والواردة دائبة الحركة في موانئها الكثير.
وقد هيأ للأندلس رواج التجارة وازدهار الاقتصاد بشكل عام ما توفرت عليه البلاد من معادن ومنتوجات، ففيها: الزئبق والحديد والرصاص، والصناعات الصوفية والحريرية والكتانية والأصباغ، وغيرها. فقد كانت الأندلس غنية بالمواد الأولية المعدنية والنباتية والحيوانية، وبسبب وفرتها قامت فيها حرف وصناعات، فقد كانت تصنع فيها المصابيح والثريات والحلي والتماثيل المرصعة بالذهب والجواهر، كما كانت تصنع فيها الأسلحة الدفاعية والهجومية، وكذلك الأصبغة مختلفة الألوان، والورق، وزيت الزيتون والصابون، والزجاج، والملبوسات، إضافة إلى الصناعات الغذائية، والصناعات الخشبية بما فيها السفن، وغيرها.
وازدهرت التجارة في الأندلس بازدهار صناعتها، فقد كان انتقال السلع وتبادلها عبر الموانئ الشرقية والجنوبية والغربية مع المشرق العربي الإسلامي وبلدان أوروبا دائب الحركة، وكان كذلك أيضاً عبر الطريق الدولي البري للقوافل التجارية الذي يصل بين الأندلس وكل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وعبر مضيق جبل طارق إلى المغرب فمصر فالشام والعراق وفارس والهند والصين.
وكانت الأندلس تصدر ما يفيض عن حاجتها من منتجات زراعية وصناعية، وتستورد أنواعاً كثيرة تحتاج إيها من المصنوعات والمواد الأولية، أما صادراتها فكان في مقدمتها السيراميك الذي اشتهرت به، وكانت تنتجه بأشكال متعددة وألوان زاهية تجذب النظر، وله رواده الذين يتحملون مشقة الأسفار من أجل الحصول عليه. كما كانت تصدر زيت الزيتون، والزعفران الذي كانت الأندلس تنتج منه كميات كبيرة، وخاصة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.
وصدرت الأندلس أيضاً الصناعات النسيجية من أغطية وثياب وأقمشة فاخرة، وخاصة تلك المنسوجة من الحرير، حيث كان في الأندلس آلاف المزارع لتربية دودة القز لإنتاجه. وصدرت كذلك الأصواف البيضاء الناعمة، والماشية، وصدرت أيضاً السيوف التي اشتهرت مدينة إشبيلية بصناعتها.
أما واردات الأندلس فكانت كثير أيضاً، ومنها الحديد لصناعة الآلات الحربية من سيوف ورماح وسكاكين وغيرها، ومنها السَّفَن الجيد، وهو نوع من الجلد الخشن، لاستخدامه في الصناعات الجلدية، واستوردوا خشب البوط لاستخدامه في صناعة مقابض السيوف.
وكان من أهم ما استورده الأندلسيون وهو الرقيق، فقد عدوا من السلع الرئيسة في أسواق الأندلس، وتاجر بهم المسلمون واليهود، وما لبث اليهود الذين مارسوا إلى جانب المسلمين كل التجارات السابقة تصديراً واستيراداً أن احتكروا هذه التجارة، أعني تجارة الرقيق، وخاصة الرقيق الأبيض.
والجدير بالذكر أن اليهود في الأندلس اشتغلوا بالتجارة المحلية، كما اشتغلوا بالتجارة الدولية التي كانت تصل شرقاً حتى حدود الصين وشمالاً إلى أوروبا، وكانوا يحضرون الرقيق من العبيد والجواري البيض من بلاد الصقالبة.
وقد يسر لليهود نشاطهم التجاري الواسع إجادتهم العربية والعبرية، وسهولة تنقلهم بين الأندلس وإسبانيا النصرانية بشكل خاص.
وقبل تفصيل القول في تجارة الرقيق التي احتكرها اليهود نذكر أنهم شاركوا خلال عصرهم الذهبي في الأندلس في معظم فروع النشاط الاقتصادي التي عرفتها تلك البلاد. فقد اشتغلوا إضافة إلى التجارة الداخلية والخارجية، بالزراعة والصناعة، وغيرها من المهن. وقد أتاح لهم المسلمون منذ أن فتحوا الأندلس المشاركة في النشاطات الاقتصادية كافة، ولم يمنعوهم إلا من النشاطات المحرمة مثل الربا، وبيع الخمر والخنزير للمسلمين.
وكان من أسباب إقبال اليهود على التجارة، إضافة إلى ذلك من طبعهم، الاستجابة إلى توصيات المجامع اليهودية لهم بالاهتمام بالتجارة، فقد جاء في توصية ليهود إسبانيا النصرانية: «بمقتضى قولكم إنهم يأمرونكم بالتجرد من أملاككم، فاجعلوا أولادكم تجاراً ليتمكنوا رويداً رويداً من تجريد المسيحيين من أملاكهم».
لقد كانت لليهود محلات تجارية في أسواق المدن حيث يقيمون، يفهم ذلك من ذكر ابن حزم أنه كان يجلس أحياناً في دكان أحد الإسرائيليين في مدينة ألمرية (Almeria)، هو الطبيب إسماعيل بن يونس الإسرائيلي.
وكانت بعض أسواق المدن متخصصة ببيع أنواع محددة من السلع القيمة مثل الذهب والحرير، ويطلق على كل منها اسم (القيسارية)، أي السوق المغطاة بسقف، وتقع غالباً قرب المسجد الجامع في المدينة. وكانت هذه القيساريات آمنة، فقد أشار العذري إلى قيسارية مدينة ألمرية، وذكر أن كل صناعة رتبت فيها «حسب ما يشكل لها، قد أمن فيها التجار بأموالهم، وقصد إليها الناس من أقطارهم».
وتاجر اليهود في محلاتهم سواء التي تقع في أحيائهم الخاصة أو في القيساريات بمختلف أنواع السلع، إلا أنهم كانوا يؤثرون تجارة السلع الأغلى سعراً مثل الأنسجة والملابس الحريرية.
وشارك اليهود الأندلسيون في التجارة الخارجية بفعالية، وكان لهم دور مهم في الحركة التجارية النشطة في البحر المتوسط بين أوروبا ودول المشرق، وكانوا شبه متخصصين بتجارة المرور أو العبور، حيث ينقلون السلع الي تاجروا بها: غزل الحرير والخز والبياض والشقيق والزئبق والأحمرة واللاذن والزعفران، وغير ذلك من السلع.
وقد شكل الذهب والرقيق أهم عنصرين في تجارة المرور، وكان الأكثر اهتماماً بالتجارة بهما هم التجار اليهود، وكان الذهب يصل إلى الأندلس على شكل رمل أو سبائك من بلاد غانا في أفريقية (السنغال ومالي وبوركينافاسو ونيجريا)، ويعالج في المسابك الأندلسية، ثم يعاد تصديره.
أما الرقيق الذين احتكر اليهود تجارتهم فقد كانوا يجلبون إلى الأندلس من أوروبا الشرقية، فمنذ القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي دأب اليهود على جلب الرقيق الأبيض الذين أصبحوا يعرفون باسم (الصقالبة) من تلك المناطق، كما كانوا يجلبونهم من شمالي إسبانيا النصرانية عن طريق الغارات التي كان يشنها المجاهدون المسلمون.
وكان التجار الصقالبة أيضاً يوردون الرقيق الأبيض بمعاونة التجار اليهود إلى ديار الإسلام بما فيها الأندلس، حيث توجد أسواق خاصة لهم في المدن الكبيرة مثل طليطلة وقرطبة.
وكان التجار اليهود يخصون الصقالبة ويصدرون بعضهم إلى أنحاء العالم، وقد ذكر ابن حوقل أن «جميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس، لأنهم عند قربهم منها يخصون، ويفعل بهم ذلك تجار اليهود. أما بعضهم الآخر ذكوراً وإناثاً فكان يباع في الأندلس، وقد زاد عدد الذكور منهم فيها في أوائل عهد الحكم المستنصر (350-366هـ/ 961-976م)على ثلاثة عشر ألفاً.
وكان التجار اليهود يستوردون الجواري وخاصة المثقفات المدربات ممن يجدن الغناء ورواية الشعر، وكان بعض هؤلاء يأخذهن طريق الرق من إسبانيا النصرانية إلى المشرق الإسلامي حيث يتثقفن، ثم يعود بهن الطريق نفسه إلى الأندلس، ومن هؤلاء: فضل، وقلم، وعلم، جواري الأمير الأموي عبدالرحمن الثاني (206-238هـ/821-852م).
وكانت الجواري في الأندلس من السلع النفيسة المطلوبة، فقد انتشر شراء الجواري في الأندلس لاقتنائهن بين الخلفاء وكبار رجال الدولة، وكذلك عامة الناس، وذلك ليقمن بالأعمال المختلفة الملائمة. وقد ذكر المقري أن اللواتي كن يخدمن في قصر الخليفة عبدالرحمن الناصر وحده أكثر من ستة آلاف امرأة.
وكانت أسعار الجواري تتفاوت حسب صفات الجارية وتأهيلها من ناحية، وحسب العرض والطلب من ناحية أخرى، فالصغيرة المتعلمة الجميلة أغلى من غيرها، وكلما زاد العرض قل السعر، فقد كانت الجارية في عهد الخليفة الناصر تباع بأكثر من ثلاثمئة دينار، وأصبح سعرها في عهد المنصور محمد بن أبي عامر (366-392هـ/976-1001م) نحو عشرين ديناراً، وكانت ابنة عظيم من عظماء الروم.
وليس من شك في أن اليهود خلال عصرهم الذهبي في الأندلس قد جمعوا من تركيزهم على التجارة، من بين مجالات الاقتصاد الأخرى، واحتكارهم تجارة الرقيق ثروات طائلة. وقد بدأ تركز هذه الثروات في أيديهم منذ بداية الفتح الإسلامي، فبينما كان المسلمون منشغلين بالجهاد ضد فلول القوط، وكان اليهود يستولون على بعض بيوت النبلاء من النصارى الذين فروا وتركوا ثرواتهم، وكانت مثل هذه الثروات تعد من المصادر الأساسية لرأس المال اليهودي.