لوكليزيو اخترع كولومبو
في بوح لمجلة نسائية، يقول الكاتب الفرنسي جي. إم. غي. لوكليزيو (نوبل للأدب 2008) إنَّه مخترعُ شخصيةِ المفوّض كولومبو، بطل المسلسل التلفزيوني الأميركي الشهير. لماذا لم يظهر اسمُه على شريط المقدمة؟
لوكليزيو، البالغ من العمر 83 عاماً، كاتبٌ نسيجُ وحدِه. متكتمٌ ويكاد يكون منطوياً. وُلد في جنوب فرنسا وعاش طفولته في جزر موريس، موريشيوس. اكتسب الجنسيةَ البريطانية حين ابتلعت بريطانيا الجزيرةَ وألحقتها بها. جنسيتان أوروبيتان لكنَّه يعتبر نفسَه كاتباً موريسياً باللغة الفرنسية. تنقَّل ما بين أفريقيا حيث عمل والدُه طبيباً، وبين الشرق الأقصى وأميركا الوسطى. أمضى شطراً من خدمته العسكرية في تايلاند. كتبَ ينتقد السياحةَ الجنسية هناك فطردوه منها. أنهَى الخدمة في المكسيك. دخل جامعتَها وتعلَّم لغاتِ القبائل المحلية. فيما بعد اختار المغربَ بلداً لقلبه.
رواياته هي الثمار الشهيّة لترحاله شرقاً وغرباً. وهو لم يكن سائحاً في أي بقعة، بل ذائب في ثقافتها وهموم أهلها. آخر ما صدر له كتاب صغير بعنوان «هويات بدويّة». يقول إنَّه لم يرَ النور في جغرافيا محددة، بل ولد في الأدب. كان جدُّه قاضياً في جزر موريس وورث مكتبته. وصلت المكتبة، بمطبوعاتها ورفوفها المصنوعة من خشب عتيق، على متن باخرة إلى فرنسا واحتلت نصفَ بيت العائلة. نشأ الصبيُّ في أحضان تلك الرفوف.
في طفولته، تعلّم الكتابة قبل أن يتقنَ القراءة. كتب بحروف متقطعة مثل تلك التي رآها في الكتب. اخترع شخصيات لمغامرين وملوك وهميين. وفي الثامنة كتب أولى رواياته وهو في الباخرة التي نقلتهم من أوروبا للعيش في أفريقيا. لم تذهب تلك المحاولات مع الريح. والدته التي كانت تعتبره عبقرياً، جمعت قصصه وجلّدتها وصنعت لها أغلفة. اخترع لنفسه داراً للنشر باسم «الذئب الأسود». وفي نهاية كل كتاب هناك إشارة إلى الإصدارات السابقة للمؤلف. كلّها عناوين من خياله. وفي المدرسة المتوسطة راح يكتب قصصاً مصوَّرة لكي يصبح محبوباً بين أقرانه. يقول إنَّه انتقل بعد ذلك إلى كتابة نوع شائع: الشعر.
في كتابه، يتطرَّق لوكايزيو إلى علاقة جمعت بين جدّه الأكبر وبين الشاعر رامبو. كان الجدّ يدرس الطب في سبعينات القرن التاسع عشر. تعرَّف على الشاعر الملعون في نادٍ قرب ساحة سان سولبيس في باريس. عاد من اللقاء وروى لزوجته أنَّ رامبو ليس سيئاً كما يُشاع عنه. هو محتالٌ فحسب. يسكر ويتحدَّى الزبائن أن يلاكموه لكن جد لوكليزيو تهرّب من المنازلة.
أمضى الروائي الفرنسي سنواتٍ من شبابه ما بين لندن وبريستول. كتب رواياتٍ بوليسيةً باللغة الإنجليزية. بعث بها إلى ناشر هناك دون أن يتلقى جواباً. معظم مشاهير الأدب بدأوا هكذا.
في واحدة من تلك المخطوطات رسم شخصية ضابط في الشرطة الجنائية يلبس معطفاً عتيقاً للمطر ويقود سيارة متهالكة. محقّق شاطر في حلّ ألغاز الجرائم المعقدة. بعد فترة ظهر المسلسل الذي ارتدى فيه الممثل بيتر فولك شخصية كولومبو. لا يزعم لوكليزيو أنَّه مخترع الشخصية لكنَّه يعتقد أنَّ روايته وقعت بين يدي كاتب سيناريو وجد أنَّ الشخصية مثيرة ووجد فيها إلهامه.
يقرأون مخطوطاتك وتقرأ ما كتب غيرك. ولوكليزيو هو أول من أطّلع على مخطوطة «المكان»، رواية الكاتبة الفرنسية آني إيرنو (نوبل للأدب 2022). كان يشتغل قارئاً لدى ناشرها «غاليمار». يقول إنَّه يحب كتابة إيرنو وقد طالع كلَّ كتبها دون أن يلتقي بها. يسعده أن توقيعيهما التقيا، أخيراً، على بيان يطالب بوقفِ الحرب في غزة.