سياسة التجريم بين كرامة الملك وكرامة الشعب
اخبار البلد_ القانون هو ذلك الضابط الاجتماعي الذي يتغيّر بتغيُّر الزمان والمكان والإنسان، والإنسان هو الذي يضبط حركة القانون، وهو الذي يبني مفرداته وفق المتغيرات الاجتماعية التي تحدث عبر الزمان، والمكان (الوجود في منطقة ما، وموقع تلك المنطقة) له تأثيراته الكبيرة السياسية والاقتصادية، وينتج عنهما بالضرورة التأثيرات الاجتماعية.
تعددت القوانين وفق تعدد العلاقات القائمة أو التي ستقوم بين البشر، وأخطر هذه القوانين هي القوانين الجزائية كقانون العقوبات، والنصوص العقابية في باقي القوانين؛ ذلك لأنّها تتعلّق بمكونات الإنسان المادية والمعنوية، فهي تضبط السلوك وفق فلسفة النظام السياسية، وتقرر عقوبات تتراوح ما بين الإعدام والغرامة القليلة القيمة، وفوق ذلك هي تُلحق الوصمة بشخصية المحكوم.
مصطلح سياسة التجريم يعني الوعي التام في إخراج الفعل من خانة المباح إلى خانة التجريم، أيّ جعل فعل يأتيه الناس دون ملاحقة قضائية مُجرَّما بقانون ينص على ذلك، وهذه العملية تتوافق مع نظرة المجتمع للفعل أو مع الأهداف السياسية لنظام الحكم، وفي الأخيرة تكون الدولة تسعى لتربية الشعب على أمر تريده هي، وترغم الناس عليه بواسطة العقوبة التي تضعها، وبحسب القيمة التربوية المبتغاة تكون العقوبة المقررة، وهي تتناسب معها طرديا.
قانون العقوبات عندنا مواليد العام 1961، أيّ أنّه قد شاخ، وبالتالي فهو يحكي قصصا كقصص الأجداد، عن بطولات وصولات انقضى عهدها، ولكنها ما زالت مفروضة علينا لا لسبب إلاّ لأن السلطة التشريعية عندنا لا وقت لديها للتفرغ وتعديل أو تبديل هذا القانون غير اللائق للحظة الحالية، وبالتالي فهو يشكّل عبئا ثقيلا على الشعب وعلى السلطات، لأن السلطات ما زالت تستند إليه في حماية مكتسباتها، في حين أنّ العالم من حولنا غيّر نطاق الحماية لمكتسبات الأنظمة من دائرة التجريم الشديد إلى دائرة العقوبة الخفيفة جدا، بل أحيانا إلى عدم العقوبة.
العالم العربي أخذ قوانين العقوبات من الدول اللاتينية، فرنسا وإيطاليا، وجزء من الهند، وقانون العقوبات عندنا يدخل ضمن تلك الدول. وقد تطورت قوانين العقوبات في الدول التي أخذنا منها قانوننا عبر السنين من مرحلة التمجيد المطلق للحاكم باعتباره إلها أو باعتباره وكيلا عن الإله، فكانت النصوص توفّر للحاكم أقصى الحماية بأقسى العقوبات، وتطورت لديهم سياسة التجريم، فكانت تنتقل يوما بعد آخر من مرحلة التشدد للحاكم إلى المرحلة الديمقراطية حتى وصلت اليوم إلى أنّ الحاكم مجرد شخص عادي تحدد مركزه الوظيفي برئاسة الدولة، وهذا الأمر جعل نطاق التعامل معه يكاد يتساوى مع الشخص العادي في المجتمع، يتمتع بالحماية اللازمة له لأداء وظيفته فقط، وما عدا ذلك يعد خروج على سياسة التجريم التي تعد الجميع سواسية أمام النص العقابي وأمام ظروف إيجاده وأمام إجراءات تطبيقه.
نحن نقلنا عنهم أقصى وأقسى حماية، وما زالت حتى اللحظة متمركزة في قانون العقوبات لدينا، وما زلنا نخضع للعقلية القضائية العرفية والتي تأخذ الشعب بشبهات فيها تطرُّف شديد، وتتناسى ذلك بالنسبة للحاكم وبالنسبة لمن حوله، وبالنسبة للطبقة العليا الحاكمة في المجتمع.
عندهم يلقى البيض على وجه الحاكم، ويرفض القاضي العقاب الشديد لأن البيض، من وجهة نظر القاضي، لا يسبب أذى لوجه الحاكم، لذلك تكون العقوبة متوازنة ومتناسبة مع الفعل، كمية قليلة من المال (50 يورو) فحسب، وهي معقولة ومقبولة، وهي سبب لأن يحترم الناس الحاكم، ويثقوا في القضاء الذي يحرسهم حتى في حالات انفعالهم.
عندنا عدي أبو عيسى حرق صورة الملك، واشتدت النيابة العامة في الطلب على اعتبار أنّها خيانة عظيمة وإهانة شديدة، وتناست النيابة العامة، ويتناسى القضاء أيضا أننا نعيش اليوم، كما الأمس، مرحلة عولمة التجريم، فالجريمة اليوم في أمريكا هي جريمة وبذات القدر في الصومال والأردن والسودان وسويسرا وباقي دول العالم، وغالبا العقوبات على الجرائم تكون متقاربة، وكذلك النصوص.
وجريمة عدي أبو عيسى إن كان فيها تعد على الملك، فإنّ هذا الفعل لا يصل إلى حد أن يودع في السجن ليقضي شبابه فيه، فلا يعقل اليوم مقابل إحراق صورة حاكم أن يسجن الشخص سنين طويلة، ويحكم بالأشغال الشاقة، فالفعل لا يتناسب أبدا مع العقوبة، ومبدأ التناسب هذا مبدأ دستوري نص عليه الدستور أو لم ينص، واليوم هو مبدأ يحميه العالم، والعالم يراقبنا، لذلك تدخلت المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان مطالبة بعدم معاقبة عدي أبو عيسى، وإن كان لا بد من العقوبة فلتكن غرامة دنانير قليلة لا أكثر. وقد كانت موازنة الملك لهذا الأمر أكثر حكمة من مجلسنا التشريعي الغافل عن الناس عندما قرر الإفراج عن أبو عيسى، وكان أكثر عدلا من النيابة العامة التي صممت على عقابه بإبقائه أكثر من أسبوع رهن التوقيف بعد قرار الملك.
نحن اليوم أمام لحظات تتبدّل فيها الأمور، وهذا التبدُّل يحتاج من طرفي الدولة (السلطة والشعب) أن يقفوا في مواجهة الواقع، لا أن يسيروا على ميراث الأيام الخوالي، فالشعب اليوم هو مصدر السلطات الحقيقي، وهو اليوم يطالب بأن يجلس على الكرسي الذي يستحقه في مواجهة الحاكم، مواجهة الند بالند، ومواجهة المسؤول للمساءلة، وكل على أرضية التساوي المطلق، لذلك فبقدر مساءلة الناس عن المساس بكرامة الحاكم، فإنّ الناس تطلب محاكمة الذين يمسون بكرامتهم ممن يحتمون بالحاكم أو يدورون في فلكه، وقد شهدنا في الأيام الماضية تعد صارخ غير مقبول ممن ينتسبون للملك، ولم يسمع الشعب أنّ النيابة وجّهت لهم تهمة المساس بكرامة الشعب.
النصوص العقابية التي تحمل بين طياتها تجاوزا على الشعب وحصانة لأفراد النظام ما عادت تتناسب مع هذا الزمن، لذلك فإنّ النص الذي يوفّر حماية لكرامة الملك يجب أن يكون ذات النص الذي يوفّر حماية لكرامة الشعب والمواطن، وبذات القدر.
في ظل عولمة التجريم وفي ظل سياسة جزائية معاصرة ورشيدة فإنّ عدي أبو عيسى ليس مجرما إلاّ بالقدر الذي يعدّ فيه أصحاب سمو وأصحاب معالي وأصحاب دولة وغيرها من الألقاب التي لم ينزل الله بها من سلطان مجرمون أيضا، بل هم أشد جرما ما يحتاج إلى أن تكون عقوباتهم مغلظة.
د.أحمد المغربي