ألمانيا... المتظاهرون في مواجهة اليمين المتطرف
كانت الأرض مكسوة بالجليد بينما كنت أنا وزوجي وابني نشقّ طريقنا إلى وسط برلين قبل يومين، ومع ذلك، فإنَّه عندما انضممنا إلى نحو 100 ألف آخرين تجمعوا هناك للاحتجاج على تطرف جناح اليمين في البلاد، شعرت بالراحة، وذلك بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة، إذ خلقت كتلة الأجسام البشرية التي كانت موجودة في المكان مناخاً دافئاً جعل من الممكن البقاء في الهواء الطلق في ظلام برلين لبضع ساعات، كما أنَّ رؤية هذا العدد الكبير من الناس يخرجون للشوارع دفاعاً عن ديمقراطيتنا جعلتنا نشعر بالدفء أيضاً.
وقد توجهنا إلى هناك بعد أن نشرت منصة «كوريكتيف» الإعلامية خبراً مهماً في 10 يناير (كانون الثاني) الماضي عن اجتماع لليمين المتطرف عُقد في بوتسدام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ووفقاً للتقرير، فقد ناقش المشاركون، الذين ينتمون إلى عدة مجموعات يمينية متطرفة، ومن بينهم كثير من السياسيين من حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، خططاً للترحيل الجماعي لملايين الأجانب والألمان من العائلات المهاجرة. وإثر ذلك خرج أكثر من مليوني شخص مذعورين إلى الشوارع لتعم الاحتجاجات، التي تعد من أكبر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد منذ عقود، في كل مكان، وذلك ليس في المدن الليبرالية مثل برلين وهامبورغ وميونيخ فحسب، ولكن أيضاً في كثير من المدن في شرق ألمانيا، حيث يتمتع اليمين المتطرف بالشعبية بدرجة كبيرة.
والشيء الغريب هو أن تقرير منصة «كوريكتيف» لم يخبرنا بأي شيء جديد لم يكن بإمكاننا تخمينه بأنفسنا، فنحن نعلم أن اليمين المتطرف مبني على أوهام عنصرية تتعلق بالتجانس العرقي، ولطالما اعتُبر حزب «البديل من أجل ألمانيا» حزباً متطرفاً، ومع ذلك، نظر كثير من الألمان لسنوات كثيرة إلى صعود اليمين المتطرف بشيء يشبه الانفصال الحذر، حتى مع ارتفاع شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» إلى نحو 20 في المائة في استطلاعات الرأي، ظل هناك بعض الاقتناع بالتهديد الذي يشكله، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، فقد استيقظت ألمانيا أخيراً.
فالديمقراطية الألمانية ليست على ما يرام، ولا تكمن المشكلة في صعود «حزب البديل من أجل ألمانيا» فحسب، الذي بات قوياً بما يكفي في بعض المناطق للتطلع إلى الحصول على مناصب في السلطة أو على الأقل لعرقلة عملية تشكيل حكومات مستقرة بشكل خطير، بل إنه في أجزاء كثيرة من البلاد تحوّل الشعور العام بالاستياء إلى ازدراء، فالناس الآن لا يرفضون الحكومة الحالية فحسب، بل النظام السياسي برمته.
وقد تزايد هذا الشعور في ألمانيا منذ بداية وباء «فيروس كورونا المستجد»، حيث اضطر الألمان منذ ذلك الحين إلى التعامل مع كثير من المشكلات، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وأزمة الطاقة، وارتفاع معدلات التضخم، ومؤخراً، التداعيات المؤلمة للحرب في قطاع غزة. وعلى الرغم من أنَّ معدل الهجرة قد بات آخذاً في الارتفاع، فإنَّنا ما زلنا نفتقر إلى العمالة الماهرة، بما في ذلك المعلمون والسباكون والمتخصصون في تكنولوجيا المعلومات، كما أنَّ البنية التحتية العامة باتت تنهار. أضف الى ذلك أجندة التحول الأخضر الحكومية الطموحة التي يعيقها الاقتتال الداخلي الوحشي، وحينها سترى صورة قاتمة للوضع في برلين، إذ يبدو أن كل شيء قد بات يتغير، لكن ليس للأفضل.
وقد تفاقم ذلك الشعور بعدم الرضا في الأشهر الأخيرة، ليتحول إلى شعور بالازدراء، ومن خلال الروايات المتناقلة، فإنه يبدو أن الجميع يعرف شخصاً انسحب من التيار السياسي الرئيسي، إما متعهداً بالتصويت لصالح حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو تراه يتحدث عن الهجرة.
إن انهيار الدعم لجميع الأحزاب الحكومية الـ3، إذ حصل «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، وهو الأكثر شعبية بينهم، على 15 في المائة في استطلاعات الرأي، يشكل تعبيراً بليغاً عن الرفض واسع النطاق لهذه الأحزاب، وقد بدأ هذا الرفض الأساسي يظهر في الأماكن العامة الآن.
وفي هذا الشهر، خرج المزارعون إلى الشوارع في عدة مدن، وسرعان ما تحولت الاحتجاجات، التي بدت ظاهرياً أنها ضد خفض الدعم، إلى مظاهرات غاضبة مناهضة للحكومة، لدرجة أن بعض المتظاهرين نصبوا مشانق، وهو الأمر الذي لا يمثل تعبيراً رمزياً فحسب، فعندما عاد روبرت هابيك، وزير الاقتصاد الألماني الذي يعد واجهة أجندة الحكومة للتحول الأخضر للعمل في بداية العام بعد موسم العطلات، قوبل بحشود غاضبة، وأظهرت التقارير لاحقاً أن أعمال الترهيب هذه قد تم تدبيرها من قبل أفراد لهم صلات باليمين المتطرف.
وصحيح أنه لا توجد وسيلة لمعرفة كافة دوافع الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع خلال الأسابيع القليلة الماضية، ولكن بالنظر إلى ما قاله المتظاهرون للصحافيين، ومن مجموعة واسعة من المجموعات التي تنظم الاحتجاجات واللافتات المتنوعة التي تم رفعها في المظاهرات، أظن أنه سيكون من الصعب على الجميع الاتفاق على بيان مشترك، فقد جاء كثيرون لأنهم إما من عائلات مهاجرة أو لديهم أصدقاء أو أقارب من هذه العائلات، أو لمجرد أنهم يرفضون العنصرية، فيما كان البعض يحتج على حزب «البديل من أجل ألمانيا»، وكان هناك آخرون يلقون باللوم على الطبقة السياسية في تأجيج التطرف، ومن المؤكد أنه لم تولد حركة سياسية جديدة بعد، لكن هناك قاسماً مشتركاً بينهم، يتمثل في شعور جديد مُلِحّ بضرورة التحرك.
فما بدأ يظهر لنا بوضوح في الأشهر الأخيرة، وما كشف عنه الاجتماع الذي عُقد في بوتسدام، هو أن اليمين المتطرف لا يتعلق بوجود أفكار مروعة، ولكنه يتعلق بتفعيل هذه الأفكار المروعة، فأتباع اليمين المتطرف في ألمانيا يعنون ذلك حقاً، ومن خلال التمويل والدعم والتمتع بفرصة حقيقية للغاية للفوز بولايات فيدرالية هذا العام، أصبحوا أقرب إلى السلطة مما كانوا عليه في أي وقت مضى في تاريخ ألمانيا ما بعد النازية الممتد لما يقرب من 75 عاماً.
وفي كتابه الأخير «Triggerpunkte» أو «نقاط التحفيز»، يرفض ستيفن ماو، وهو عالم الاجتماع في جامعة هومبولت في برلين، فكرة أن المجتمع الألماني قد بات منقسماً بدقة إلى قسمين، ويجادل بأن الانقسامات في برلين تمر بدلاً من ذلك عبر عدة مجالات، مثل المناخ والهجرة والعدالة الاجتماعية، كما أنه يمكن للبعض أن يتأثروا ببعض المشكلات، ولا يهتموا بغيرها. وفي الأشهر الأخيرة، كان أولئك الذين تحفزهم معارضتهم لسياسات الهجرة أو قضية المناخ هم الأكثر صخباً ووضوحاً، والآن وصل أولئك الذين يهتمون بالديمقراطية وحقوق الأقليات وسيادة القانون إلى نقطة الانطلاق أو التحفيز أيضاً. ومن غير المؤكد إلى أين سيفضي بنا هذا المسار، فقد تنتهي الاحتجاجات بمجرد امتصاص الصدمة وعودة الناس إلى حياتهم اليومية، وقد قال لي ماو إن «هذه كانت لحظة مهمة لتحقيق الذات»، وأضاف أن الاحتجاجات تعد أيضاً بمثابة تذكير مهم للأحزاب الرئيسية بأنه لا ينبغي تقليد رسائل حزب «البديل من أجل ألمانيا» لأنه من الواضح أن غالبية الألمان لا يؤيدون المواقف المتطرفة.
ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن المتظاهرين بعثوا برسالة إلى اليمين المتطرف نفسه، مفادها: «نحن على استعداد لحماية المواطنين الألمان وكذلك ديمقراطيتنا، ولذلك لا ينبغي أن تشعروا بالراحة بشكل أكبر من اللازم، وذلك لأنكم قد تصبحون قريباً أنتم مَن تخرجون في الجو البارد في الهواء الطلق».* صحافية ألمانية في هيئة تحرير مجلة «دير شبيغل»