مشاركة واعية في إبادة الفلسطينيين..!



تدافعت الكثير من الدول للانضمام إلى الولايات المتحدة في قطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ولا يمكن النظر إلى هذا الإجراء، بمشاهدة الذرائع، سوى بحقيقته كمساهمة إجرامية في تعميق معاناة الفلسطينيين وإسلامهم للموت. وحسب توني بلينكين، وزير خارجية الدولة التي لا تضيع فرصة لتعذيب الفلسطينيين، فإن بلده لم يتحقق من اتهامات الكيان لموظفي الوكالة بشكل مستقل، وأخذت رواية الكيان الصهيوني كشيء مُصدق لا يحتمل الشك.


يأتي هذا الإجراء ضمن سياق طويل من مساعي الكيان الاستعماري الاستيطاني لإلغاء الشعب الفلسطيني بكل وسيلة ممكنة. وقد جرت محاولات لإعادة تعريف «اللاجئ الفلسطيني» بحيث يتم نزع الصفة– التي تمثلها وكالة الغوث- بحيث لا تنطبق إلا على الذين هُجروا في العام 1948. وبذلك يفقد أبناؤهم وأحفادهم هذه الصفة بحيث لا يحق لهم المطالبة بحق العودة. وستكون الوسيلة لتحقيق ذلك هي إنهاء وجود «الوكالة»، ومعها سجلاتها التي توثق أجيال اللاجئين الفلسطينيين.

الآن، في الوقت الذي يشهد تعرض الفلسطينيين لوحشية غير مسبوقة تتمثل في تصفيتهم جسديًا بالرصاص والمرض والجوع، تتداعى الدول فاقدة الإنسانية والضمير لقطع التمويل عن «الوكالة» حين تشتد الحاجة إلى خدماتها في قطاع غزة وسكانه المستهدفين بالإبادة. وتتجاهل هذه الدول تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة من مختلف الوكالات الذين يصفون الآثار المميتة التي سيخلفها تعليق التمويل على الفلسطينيين في غزة، وبقية اللاجئين خارج الوطن. وبذلك، يبدو سلوك هذه الدول، المبرر بأساس هزيل، مشاركة واعية ومقصودة في الهجوم الغريب على الشعب الفلسطيني والبحث عن أسباب لإخراجه جميعًا من التاريخ.
سوف يعني حرمان «الوكالة» من التمويل في هذه الظروف المشاركة في الإعدام الميداني خارج نطاق القانون لفلسطينيي غزة الذين يمكن أن تنقذهم إغاثة الأونروا من الموت. وسوف يعني أيضًا حرمانَ بقية الفلسطينيين في مخيمات الداخل والشتات من خدمات التعليم والرعاية الصحية والمساعدات الغذائية والمادية التي تقدمها «الوكالة». وسوف يضع ذلك عبئًا إضافيًا على كاهل الدول المضيفة للاجئين. وعلى المستوى الإستراتيجي، سوف يخدم تفليس «الوكالة» خطط إلغائها، وربما استبدالها بتكوين يميّع مفهوم اللاجئ الفلسطيني، وينفذ سياسات يضعها الكيان الصهيوني وتطبقها الدول الحليفة والصديقة العاكفة على شطب الفلسطينيين.
كان مما يتهم به الكيان وكالة الغوث أنها تساعد «التطرف». ويعني بذلك أن مدارسها لا تدرّس للطلاب الفلسطينيين مناهج تصور لهم الاستعمار الصهيوني كنعمة إلهية ومثال لما ينبغي أن يُعبد في الأرض. وقد كرر نتنياهو في كل خطاب في الآونة الأخيرة أنه يريد أن يفرض في المناطق الفلسطينية مناهج لا تعلّم أطفال الفلسطينيين «كراهية إسرائيل» بدلاً من عشقها الواجب. ويتحدث قاتل الأطفال بثقة مجنون بداء العظمة عن حبّ مفترض وقبول يحمله لكيانه أطفالُ فلسطين اليتامى ومبتورو الأطراف والمصابون بكل أنواع الفقد والصدمة بسبب «الجيران السلميين». ويبدو أنه لا يريد الاعتراف بحقيقة أن عقوداً من المحاولات بشتى الوسائل لم تغير انتماء الفلسطينيين أو تضعف هويتهم وإدراكهم الطبيعي لمكانهم في الصراع. وكان كل ما فعلته وحشية الاستعمار الصهيوني وأنصاره هو زرع المزيد والمزيد من الحقد المبرر والإصرار على تخليص العالم من كيان الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الجدير بالكراهية.
حسب تعريف الأمم المتحدة، تشمل الإبادة الجماعية الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية. وفي ظل الإبادة الجماعية (المحتملة) على الأقل حسب محكمة العدل الدولية، فإن الحرمان المتعمد من الموارد والمساعدات الأساسية في غزة يسهم حتمًا في خلق ظروف تعرّض الأرواح للخطر. ومن المؤكد أن تعمُّد تعليق تمويل أهم وكالة إغاثة أممية في القطاع يعني المشاركة في قصد التدمير الكلي للغزيين وتعريض أرواحهم للخطر. وينبغي أن تدرك الدول المشاركة خطورة أعمالها ودورها في تعميق الأزمة الإنسانية في غزة إلى حد القتل المتعمد للمدنيين وإبادتهم جماعيًا.
في ظل العقوبات الجماعية المسيسة بحق 6.4 مليون لاجئ فلسطيني، حسب مسؤول في الأمم المتحدة، والظروف الكارثية بشكل خاص في غزة، يتساءل المرء عن دور الدول العربية الغنية في إجهاض الاستهداف العدواني لـ»الوكالة» والغايات خلف هذا الاستهداف. وإذا لم تكن هناك موانع لا نعرف عنها، فإن بوسع هذه الدول أن تغطي نقص التمويل من دون خوف من اتهامها بتمويل «الإرهاب» الذي تعرف أنه غير موجود مطلقًا في عمل «الوكالة»، وأن تدافع عن موقفها بشجاعة في ضوء التزامها القومي والديني والأخلاقي والإنساني تجاه الفلسطينيين، كعرب وكبشر.
إذا كان مشعلو الحرائق ونازعو الاستقرار الحقيقيون في العالم يعرفون أعمالهم الحربية وغير الإنسانية بأنها مساهمة في حفظ استقرار الإقليم، فإن استثمار العرب في إغاثة الفلسطينيين في غزة وغيرها، ومن ذلك دعم «الوكالة» ينبغي أن يساعد استقرار الإقليم حقًا. لطالما كانت الاحتياجات الإنسانية غير الملباة سببًا في الاضطرابات والسخط التي تكون لها تداعيات عبر الحدود. وينبغي أن يكون الأوان قد حان، بل وتأخر، لإعادة تعريف المصالح الوطنية للدول العربية بطريقة أفضل كما هي في حقيقتها الواضحة. ولا تخفى المصلحة الوطنية والإنسانية والقومية في حفظ البعد المادي والرمزي لـ»الوكالة» في هذه الظروف، وليس لخدمة الوجود الفلسطيني فقط.