العالم في رعب من "الوحل" الأميركي... ترامب يسعى لإنهاء "حكم الأغبياء"




عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، صدرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية بغلاف يحمل صورتى هيلاري كلينتون ودونالد ترامب ملطختين بالوحل والقذارة، فى إشارة إلى أن كليهما مكروه وسيئ، وهي الانتخابات التي فاز فيها ترامب. الأسبوع الماضي نجح الرجل في الفوز بالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بولاية آيوا ليقطع خطوة في السباق نحو البيت الأبيض. وبينما يتململ الأوروبيون ويتوجس الصينيون ويبتهج الروس يتابع بقية العالم المشهد الأميركي المثير للحيرة والجدل: ترى ماذا سيحمل غلاف "دير شبيغل" لو انحصر النزال الرئاسي بين جو بايدن ودونالد ترامب؟!

سرير ترامب! فاز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في ولاية آيوا، بنسبة 51% مقابل 21.2 % لرون ديسانتيس، و19.1% لنيكي هايلي، وأوضح ترامب أن فوزه هو "الأكبر في تاريخ الحزب الجمهوري" بهذه الولاية، ما يعزز فرصه ليكون مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، إذ وعد ترامب باستعادة أميركا من "حكم الأغبياء"، مضيفاً "علينا إنقاذ البلاد من كوارث بايدن". كما كشف استطلاع للرأي أجرته صحيفة "واشنطن بوست" وجامعة مونماوث، أن الرئيس السابق يتقدم بفارق كبير على نيكى هايلي، منافسته الرئيسية في انتخابات ولاية نيوهامشير

تحقق فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، برغم وجود أسباب عديدة لعدم اختياره، منها أن الجمهوريين فقدوا السيطرة على الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب خلال السنوات الأربع الماضية (عاد الجمهوريون للسيطرة على مجلس النواب في الانتخابات النصفية الأخيرة)، بعدما فشل ترامب في البقاء رئيساً بالمكتب البيضوي، بالإضافة إلى سجله الحافل من الملاحقات القضائية:91 جناية، في 4 قضايا جنائية العام الماضي، لاسيما أعمال الشغب في الكابيتول

قطع ترامب خطوة مهمة في السباق إلى البيت الأبيض، لكن لا يزال أمامه الكثير من العمل لكي يحمل لواء الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية؛ بيد أن فرصته كبيرة وواعدة؛ ولا سيما أن "نخباً فاعلة" مصابة بخيبات أمل من سياسات الرئيس بايدن وإدارته، بينما يمثل ترامب نموذج الرجل الشعبوى الأبيض القوي، "القرصان" الصاعد بقوة، برغم ممانعة مؤسسات: الحكم، الإعلام، "وول ستريت"

يذكر ستانلي كارنوف، فى كتابه "الامبراطورية الأميركية"، أن رئيس الولايات المتحدة ويليام ماكينلي، الذى بدأ عصر التوسع الامبراطوري الأميركي، شخصية غريبة. كان رجل أعمال وسياسياً لا يملك التجربة أوالثقافة اللازمة لاتخاذ القرارات المهمة، واعتمد على جماعات الضغط من أصحاب المصالح، حتى شاعت فى عهده نكتة: "كيف يتشابه عقل الرئيس ماكينلي مع سريره؟". لتأتي الإجابة: "كلاهما لا بد أن يرتبه له أحدهم، قبل أن يستعمله"!

أوجه الشبه متعددة بين ماكينلي وترامب، فإذا كانت السيدة ميلانيا ترتب سرير الرئيس الأميركي السابق، فإن صقور الجمهوريين من المحافظين الجدد يتولون ترتيب عقله، كما فعلوا مع بوش الإبن، بل إن كثيراً من هؤلاء فشلوا في الإمساك بزمام الرجل، وضجوا من عنف تصرفاته وتناقضات سياساته، فتساقطوا تباعاً، لدرجة أن المخرج الأميركي مايكل مور وصف ترامب بأنه "البائس الجاهل الخطِر المهرج بدوام جزئي، والمعادي للمجتمع بدوامٍ كامل"

"الفتوة الأميركي" عندما وصل ترامب إلى الحكم في ولايته الماضية رفع شعار "أميركا أولاً"، وأطاح بكل ما يتوهم أنه ليس فى مصلحة بلاده، دون أي اعتبار للأخطار الناجمة عن مفاعيل سياساته محلياً وعالمياً؛ إنه رجل أعمال لا يحكمه سوى منطق صفقات البيع والشراء، يحاصر القوى المنافسة بإظهار الغضب أو إدعائه دون مبرر أغلب الأحيان، لإجبارهم على إتقاء شر واشنطن، بأن يهرعوا خفافاً لاسترضاء "الفتوة" المستاء من عدم رعايتهم مصالحه. علامات الغضب فى وجه "الفتوة الأميركي" لا تترك للآخرين سوى طريقين كي يرضى: إما الإذعان لمطالبه، حتى لو اضطروا إلى تسخير ثرواتهم وقواهم في خدمة السيد الأميركي، وإما التلكؤ في الإذعان وساعتها تمنح الولايات المتحدة نفسها حق التصرف (منفردة)، واتخاذ ما تراه ملائماً من القرارات، ولو أفضت إلى هلاك الآخرين

تشكو واشنطن أوضاعاً جائرة (كذا) فتنسحب من اتفاقيات تمس وجود البشرية ومستقبلها، كاتفاقيات المناخ والتجارة عبر المحيط

الهادي، أو تبطل غيرها دون إعلان كالحد من التسلح... إلخ. تستشعر أميركا أنها تتراجع بينما المنافسون يتقدمون، الصين مثال ساطع، لذلك تحاول عرقلتهم، بإغراقهم في الأزمات، مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي والتحالفات ضدها في المحيطين الهادي والهندي. لا يهم إن أفضى هذا إلى إغراق العالم فى حروب اقتصادية وعسكرية ومستنقعات الدم الآسنة. يدرك الآخرون فحوى رسائل واشنطن، يتحسبون لها قدر استطاعتهم. حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتكرر عن الأسلحة الاستراتيجية الفائقة، هو في الحقيقة إعلان عن "رعب روسي كامن"، يوشك أن ينفجر تحت قسوة الضغوط

الأميركية والغربية على موسكو في أوكرانيا وكل المسارح العالمية

إنه تحذير وصراخ من الوجع لا استعراض قوة من باب الخيلاء أو الإعجاب بالذات. وربما تكون روسيا الدولة الأكثر ابتهاجاً لو عاد ترامب رئيساً لأميركا، فقد وعد بإنهاء الحرب في أوكرانيا، في يوم واحد، وهو ما يعني على الأرجح نهاية المساعدات الأميركية لكييف. في غضون ذلك دعت مجلة "بوليتيكو" الأميركية، الاتحاد الأوروبي إلى الاستعداد من الآن للعواقب السلبية المحتملة لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ يعتقد العديد من السياسيين الأوروبيين أن علاقات واشنطن مع الدول الأوروبية سوف تعاود التدهور لو فاز ترامب، وأوضحت أن هناك تهديداً لمستقبل العلاقات الأميركية - الأوروبية، فأوروبا على قناعة أن ترامب سيطلب منها إنفاق نسبة تزيد على 2 بالمئة من الناتج المحلي على التسليح كونها في حلف شمال الأطلسي. كما تخشى كثير من الدول تنكر ترامب لقواعد التجارة العالمية ونزعته الحمائية، ويمتد هذا إلى سلسلة واسعة من قضايا التغير المناخي واحتكار التكنولوجيا والهجرة غير الشرعية وغيرها

إنهاك الأقوياء وإذا كان هذا حال الصينيين والأوروبيين مع السياسات الأميركية التي تنهك الأقوياء وتستلب غنائمهم، فما حال عرب الشرق الأوسط الملتهب أصلا، مع "قرصان أميركي"، يسيل لعابه لكل ما فى أيديهم؟!... إن حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة وبقية الأراضي العربية المحتلة وغيرها تحت بصر العالم؛ ما كان لها أن تجرؤ عليها لولا الدعم الأميركي اللامحدود، ولا فرق في ذلك بين الجمهوريين والديموقراطيين. ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو بايدن الذي يرعى العدوان على غزة، الجميع في واشنطن متحدون مع الإسرائيليين على إزهاق حقوق الشعب الفلسطيني في قدسه ووطنه وحياة أبنائه، وتلك قصة من طينة "المآسي الإغريقية" الكاشفة لكل دميم في العنف الأميركي ضد قيم العدالة والضمير والإنسانية

شئنا أم أبينا، تظل الحقائق ناقصة، ما دامت تحيطها ظلال كالثقوب السوداء... واقع اليوم يقول: إن سيداً جديداً بالبيت الأبيض سينتخب نهاية 2024، وفرصة ترامب تبدو حتى الآن كبيرة، بعد انسحاب ديسانتيس من السباق الرئاسي وإعلانه تأييد ترامب الذي يتردد صدى آرائه من حولنا. صحيح أن فيها كثيراً من الضبابية والخطر، العزلة أو الصدام الحضاري، جميع الاحتمالات واردة بكل القضايا. ما يتمناه قاطنو الشرق الأوسط ألا يكون المسار فرضاً للسيطرة، إنما دعوة إلى "شراكة" مع التسليم باحتمالات الخلل فى عدالة "الشراكة" بين طرف بالغ القوة وشركاء أقل منه قوة بكثير، لكن تحقيق قدر من العدل يتوقف على إرادة الأقل قوة ودرجة استعداده، وهو ما ينبغى أن نعيه ونتحسب له. ينقل المؤرخ جان لاكوتور عن الزعيم الفرنسي ديغول قوله: "إنني أستطيع أن أفهم إنكلترا والصين وألمانيا، لكني لا أستطيع أن أفهم أميركا، لأنه ليست لها في التاريخ مفاتيح تمكّن من ذلك"

إن "كثرة الاحتمالات" تتطلب مزيداً من الوعي والحذر؛ فالضباب الأميركي كثيف، يتجاوز عقل ترامب وسريره... وأوطان العرب حبلى بنذر الخطر وأسبابه!