ملكة الدنمارك... تخون شعبها
نجحت الملكة مارغريت الثانية (83 عاماً) التي تربّعت على عرش الدنمارك منذ 1972، أخيراً في "خيانة" شعبها! فبعد نحو عشر سنوات من التعهد لمواطنيها بأن تبقى على العرش مدى الحياة، فاجأتهم بالإعلان عن تقاعدها الوشيك. وفي 14 كانون الثاني (يناير)، وقّعت أقدم ملوك أوروبا وثيقة تنحّيها رسمياً، ثم سارعت بالخروج حتى قبل أن يستقرّ ابنها فريدريك (55 عاماً)، الملك الجديد، في الكرسي الذي كانت تشغله. لكن هيهات أن تخرج من تاريخ بلادها الذي صنعته بنفسها إلى حدّ كبير، ومن قلوب الدنماركيين التي دخلتها من دون استئذان بفضل تفرّدها. فهل سيكون من السهل ملء الفراغ الكبير الذي ستتركه؟
من الصعب على الملك فريدريك أن يعوّض سريعاً غياب أمه، على الصعيد الشعبي. فهي ملكة غير تقليدية، من أكثر من ناحية، منها ثيابها البرّاقة بألوان فاقعة أحياناً، والسيجارة التي كادت لا تفارق شفتيها فلُقّبت بـ"صحن السجائر". كما أنّها واسعة الاطلاع. حملها شغفها بالمعرفة إلى أربع جامعات، كامبريدج حيث درست علم الآثار، وأرهوس التي منحتها شهادة في العلوم السياسية، ثم السوربون فكلية لندن للاقتصاد. وبقيت وفية لاهتماماتها الفنية وهي على سدّة الحكم، إذ رسمت، وصمّمت أغلفة كتب، كما كتبت السيناريو...الخ. تُضاف إلى هذا كله مهارتها في التعاطي مع الصغير والكبير بعفوية، الأمر الذي جعلها ملكة استثنائية تحظى بإعجاب 82 في المئة من الدنماركيين
أما على المستوى الداخلي، فسيواجه ابنها البكر تحدّياً كبيراً للعب دورها كرمز وموّحد. كانت والدته هي "السلطة والبلاد" ومصدر وحدة شعبها الذي لم يعرف أبناؤه ملكاً آخر لنصف قرن. فكيف له أن يكون كل هذا دفعةً واحدة في سنوات؟ وما يزيد مهمّته تعقيداً هو التحولات التي شهدتها البلاد في العقود الأخيرة، وجعلتها وطناً لأشخاص من ثقافات مختلفة تتقارب مع العادات المحلية حيناً وتتناقض أحياناً، ما يجعل المجتمع عملياً غيتوهات أو كتلاً غير مترابطة تقوم على أساس الهوية الإتنية والدينية
وهو ما حذّرت منه الملكة مارغريت منذ عام 1984 في خطاب وصفت فيه الدنمارك بـ "الجنّة الصغيرة"، المعطاءة التي تستقبل المهاجرين بحفاوة. وبدت عاتبة على الوافدين الذين "يعبثون بنمط حياتنا وبلغتنا، وسرعان ما تصبح الضيافة صعبة"
ومع الزمن، راجعت موقفها المعتدل من الهجرة، لتجنح إلى اليمين. وأخذت تشكو من "الصعوبات التي ينطوي عليها نجاح دمج المهاجرين في المجتمع المحلي والتي تعوق أيضاً تعايش الثقافات وتفاعلها مع بعضها بعضاً. ففي 2016 رأت أنّ الدنماركيين أخطأوا بعدم تعريف الأجانب بثقافة البلاد وتقاليدها. وخصّت بالذكر المسلمين الذين زعمت أنّ مواطنيها لم يعلمّوهم قواعد الديموقراطية (!). وأكّدت في العام ذاته أنّه ليس بوسعها "القول إننا بلاد متعددة الثقافات". وأضافت أنّ المرء "لا يصبح دنماركياً من خلال العيش هنا. فذلك لا يحصل بالضرورة"
قد لا يجوز للمرء أن يلومها على تغيير موقفها من الهجرة، وما يتمخض عنها من تعددية ثقافية، في وقت يشهد الغرب كله تصاعد الجدال بشأنها. لا بل ربما كانت أكثر تروياً بكثير من العديد من مواطنيها الذين قال 51 في المئة منهم في 2001 إنّ الهجرة تأتي على رأس القضايا التي تقلقهم. واتخذوا هم وحكوماتهم المتعاقبة مواقف أكثر تشدّداً باطراد حيال الهجرة. حتى أنّ السويد أعلنت أنّها تحاول تعلّم الصرامة في التعامل مع المهاجرين من الدنمارك. وهناك عدد من أحزاب اليمين المتطرّف الدنماركية التي تتخذ العداء للإسلام هدفاً أساسياً لها، مثل "سترام كورس" الذي قرّرت المملكة المتحدة منع زعيمه راسموس بالودان الذي يحرّض على الكراهية ويحرق القرآن علناً، من دخول أراضيها. وهذا الحزب العنصري ليس ممثلاً في البرلمان، شأنه شأن "الجناح الصحيح"، إلاّ أنّ "حزب الشعب الدنماركي" الذي يشاطرهما كراهية الإسلام، يحتل سبعة مقاعد في البرلمان
لقد بدت الملكة السابقة متصالحة مع غياب التعددية الثقافية في بلادها، مع أنّ حياتها كشخص تجسّد فوائد الانسجام بين ثقافات شتى. فهي كانت أولى ثمار زواج مختلط، وتلونت شخصيتها بعناصر من ثقافات مختلفة. اتقنت لغات عدة، وورثت العادات والتقاليد السويدية عن أمها، كما تشبّعت بثقافة زوجها الأمير هنريك الفرنسية، الذي أنجبت له الملك فريدريك والأمير يواكيم (54 عاماً). ومن السخرية أنّ التعددية الثقافية التي طبعت حياتها وحياة ولديها، فكلاهما متزوج من أجنبية، ليست متاحة لبلادها!
هكذا تنحّت مارغريت في وقت تعيش فيه الدنمارك حالة توتر ناجم عن صعود اليمين العنصري المتفاقم، فضلاً عن التمزق الثقافي. ولن يبالغ المرء في التشاؤم إذا قال إنّ فرصة الملك في توحيد الصفوف وتهدئة الصراع بين مكونات المجتمع الأصلية والوافدة، ستكون محدودة
وعلى الصعيد العائلي، تركت الوالدة لابنها حالةً مماثلة من الاضطراب الذي بدأ أواخر 2022، حين قرّرت حرمان أحفادها الأربعة أولاد الأمير يواكيم من لقب "صاحب السمو الملكي"، لكي يعتمدوا على أنفسهم ويبنوا حياتهم بأيديهم. غير أنّ القرار "ألحق الأذى" بالأولاد كما احتج والدهم. وأوضح عاتباً أنّه أُبلغ بالقرار قبل 5 أيام من إعلانه لكي يشرح الأمر لأولاده!
وحقيقة أنّه حضر لوحده مراسم الاحتفال البسيط بتنصيب شقيقه، فيما بقي أولاده الأربعة وزوجته بعيداً، توحي بأنّ الجرح لم يندمل بعد، خلافاً لما توقّعته أمه من أنّ الزمن كفيل بإعادة الوئام إلى العائلة المالكة. والسؤال هو، إلى أي مدى يذهب يواكيم وأولاده في التعبير عن استيائهم؟ وهل يتمرّد والدهم على طريقة الأمير هاري الذي يشبهه في موقعه ضمن العائلة "كرجل احتياطي"؟
وتداعيات تنازل مارغريت عن العرش لن تقتصر على الدنمارك، كما لن يتحمّل ابنها فريدريك وحده أعباء تنحّيها. فانسحابها من ميدان الملكيات الأوروبية الذي كانت من أقطابه لوقت طويل، ستكون له أصداء في عواصم أخرى، لاسيما أنّ القصور الأوروبية تتجّه سلفاً إلى تبديل ساكنيها. هكذا شهد العقد الماضي تقاعد ثلاثة من الملوك المتقدمين في العمر، في هولندا وبلجيكا وإسبانيا. وأخذت الأصوات سلفاً تناشد الملك تشارلز الثالث ألاّ يطيل جلوسه على عرش بريطانيا فهو لم يعد صغيراً (76 عاماَ). أما ملك السويد غوستاف، الأكبر من نظيره البريطاني بسنة، فهو مرشح بقوة للسير على خطى قريبته مارغريت. ولا يُستبعد أن يأتي دور قريبهما هيرالد (87 عاماً) ملك النرويج، بسرعة أكبر من غوستاف
في المحصلة، إنّ ضخ دماء جديدة في النظام الملكي الأوروبي هو في مصلحته، فالشباب سيمدون بعمره في زمن صار شغوفاً بالجديد