المشرق العربي: من التنافس الغربي إلى التنافس الآسيوي
على الرغم من الخلط في كثير من الكتابات بين "الجيوسياسي Geopolitics” و”الجيواستراتيجي Geostrategy”، وخصوصاً في الكتابات العربية، وعلى الرغم من التداخل بينهما وبين الجغرافيا السياسية،[2] فإننا سنركز على البعد الجيواستراتيجي للمنطقة العربية من زاوية محددة، وهي المشاريع الدولية تجاه الشرق الأوسط، مقتصرين البحث على المشروعات الآسيوية التي قد تنطوي على تنافس لا يجوز معه استبعاد تطوره من تنافس إلى توتر ونزاع وصراع.
فبعد بدء تراخي النفوذ الغربي ومشروعاته المعاصرة "نسبياً”، مثل مشروعات الشرق الأوسط الجديد والشرق الأوسط الكبير والناتو العربي…إلخ، برز مشروعان آسيويان مهمان هما: مبادرة الحزام والطريق الصينيةBelt and Road Initiative (BRI) منذ إعلانها سنة 2013، ومشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا India-Middle East-Europe Economic Corridor (IMEEC) الذي تمّ الإعلان عنه سنة 2023.
أولاً: المشروع الصيني
كانت العلاقة العربية الصينية في الفترة 1949-1976 أسيرة منظور آيديولوجي (باستثناء الفترة 1949-1955، عندما كانت صورة الصراع العربي الصهيوني غير واضحة الأبعاد لدى القيادة الصينية). لكن التحول في هذه العلاقات مرَّ بمرحلة انتقالية خلال الفترة 1978-1976، ثم سيطر منظور براجماتي تدرجي وهادئ دفع لاعتراف سعودي بالصين سنة 1990، واعتراف صيني بـ”إسرائيل” سنة 1992، وهو ما فتح الطريق لتنامي العلاقة الصينية الشرق أوسطية والتي توجتها مبادرة الحزام والطريق المعلنة سنة 2013.[3]
وتضع دراسة أكاديمية موازنة بين دوافع ومعوقات العلاقات الصينية الشرق أوسطية وخصوصاً العربية على النحو التالي:[4]
1. الدوافع الصينية: أي ما هي عوامل التنامي في العلاقات العربية الصينية؟
أ. غلبة النزعة البراجماتية في الخطاب والسلوك السياسي الصيني منذ 1978.
ب. انهيار الاتحاد السوفييتي عزّز النزعة البراجماتية الصينية منذ 1990.
ج. الحاجة المتزايدة للصين للنفط العربي خصوصاً في الدول العربية المحافظة نتيجة تحقيق الصين لمعدلات نمو اقتصادي قياسية.
د. غياب ذرائع "الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو الانحياز لمذاهب دينية معينة على حساب أخرى، او لنزعات إثنية (كردية أو أمازيغية أو غيرها)” في السياسة الصينية الخارجية.
هـ. عدم ربط الصين مساعداتها أو مجمل علاقاتها مع العالم العربي بشروط سياسية استراتيجية أو بتواجد عسكري، أو بتصويت بشكل أو آخر في المنظمات الدولية…إلخ.
و. تزايد النزعة العربية لدى النخب السياسية العربية خصوصاً الجديدة، للتحلل من ثقل بعض الاشتراطات الغربية للعلاقة معه.
ز. قوة الجذب لنموذج التطور الصيني اقتصادياً وتكنولوجياً شكَّل عاملاً مهماً في التنبه العربي للعلاقة مع الصين.
ح. عقلانية القرار الصيني في العلاقة مع الدول العربية استناداً لزيادة المتخصصين الصينيين في الشأن العربي، وتوسيع تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية، وانتشار معاهد كونفوشيوس Confucius Institute لتعليم الصينية، وزيادة عدد الطلاب العرب في الجامعات الصينية…إلخ.
ط. اتَّساع قاعدة التطبيع العربي الإسرائيلي رفع الحرج عن الصين لتعميق علاقاتها مع "إسرائيل” منذ 1992.
ي. حجم السوق العربي من ناحية، والقدرة الشرائية الكبيرة لدى قطاع مهم من مستهلكي هذا السوق من ناحية ثانية، شكّل قوة جاذبة للتوجه السلعي الصيني نحو المنطقة.
2. كوابح تطور العلاقات العربية الصينية: وتتمثل في:
أ. مدى قدرة النزعة البراجماتية الاقتصادية بل والميركنتيلية mercantilism الصينية على لجم التأثيرات السياسية والأيديولوجية والعسكرية للحزب الشيوعي الصيني وبعض النخب السياسية الصينية على المدى الطويل، ففي الصين تيار يتزعمه أحد أبرز مفكريهم وهو وانغ جيسي Wang Jisi الذي يدعو الصين لملء الفراغ الناتج عن التراجع الأمريكي في المنطقة العربية، والتمدد ديبلوماسياً واقتصادياً في المنطقة. بينما يرى مفكر صيني آخر هو كو تشينغ Qu Xing رئيس معهد العلاقات الدولية الصيني، ضرورة الدفع بالولايات المتحدة للغرق في مشكلات الشرق الأوسط لكي تنصرف عن التضييق على المصالح الصينية في حوض الهادئ،[5] ولعل ذلك هو الخلفية وراء نزوع خبراء المشروع الصيني إلى توقع أن تعرف العشر سنوات القادمة تحولاً في استراتيجية مبادرة الحزام والطريق من خلال حقنها بجرعات أمنية وسياسية.[6]
ب. نسبة غير قليلة من المشاريع الصينية والتعهد بالمساعدات التنموية لم يتم الوفاء بها أو لم تنجز طبقاً للخطة المقترحة، مما يقلص مصداقية المشاريع الصينية المأمولة. فطبقاً للتقارير الرسمية الصينية، فإن مستوى الاستثمارات الخارجية المباشرة تراجع، كما أن هناك مشروعات تمّ وقفها، ناهيك عن التركيز الصيني على بعض القطاعات الأقل أهمية للدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، إلى جانب عبء فوائد الديون الصينية على دول الحزام والطريق، وتتراوح الفوائد الصينية بين 6-4.5%.[7]
ج. إن نسبة الفساد وعدم الاستقرار في المنطقة قد يربك إلى حدّ بعيد التخطيط الصيني في كيفية التوفيق بين التنمية في العلاقات مع الأطراف العربية وبين عاملَي الفساد وعدم الاستقرار السياسي، ونظراً لتصدر المنطقة العربية الأقاليم السياسية العالمية في معدل عدم الاستقرار السياسي، فإن ذلك يجعل المشروع الصيني عرضة لتحولات جذرية في السنوات القادمة في ظلّ استمرار عدم الاستقرار في مستوياته الحالية، وهو ما سيدفع الديبلوماسية الصينية للعمل على تعزيز متغيرات الاستقرار السياسي، فإذا علمنا أنه في سنة 2022 كان 23% من مشروعات مبادرة الحزام والطريق في الشرق الأوسط وبزيادة نحو 6.5% عن سنة 2021، ندرك لماذا ستعمل الصين على توسيع دائرة وساطاتها السياسية لضمان بيئة آمنة لمبادرتها، وهو ما يفسر الوساطة بين السعودية وإيران، واحتمالات تزايد الدور الديبلوماسي الصيني في موضوع تسوية القضية الفلسطينية.
د. مدى التشبث الأمريكي بتعطيل المشاريع الصينية في المنطقة في ظلّ التنافس بينهما في مناطق مختلفة وموضوعات مختلفة أيضاً، خصوصاً في ظلّ الاعتماد في بعض الدول العربية الخليجية بشكل كبير على التسلح والحماية الأمريكية لهم من اضطرابات الإقليم، ناهيك عن عمق التغلغل الأمريكي في بنية هيئات صنع القرار في عدد كبير من الدول العربية.
هـ. اتساع قاعدة الأحزاب والتيارات الفكرية الدينية، واحتمالات استغلالها للسياسات الصينية تجاه الأقلية اليوغورية في المقاطعات الغربية الصينية (نحو 12 مليون مسلم)، قد يشكل عائقاً نسبياً للمبادرة الصينية.
ثانياً: الممر الاقتصادي الهندي
تعود العلاقات العربية الهندية لفترات بعيدة تمتد حتى الفترة السومرية (3000 سنة ق.م)، وشكَّلت بلاد فارس ممراً للعرب إلى الهند والصين. ومع ظهور الإسلام تزايدت العلاقات بين الطرفين، بل تعمقت في فترة الاستعمار وظهور شركة الهند الشرقية، ثم انقسام القارة الهندية إلى باكستان والهند وصولاً للفترة المعاصرة. وقد عرفت هذه الفترات مزيجاً من التعاون حيناً والتنافس حيناً آخر.[9]
ويمكن تحديد ثلاثة عوامل شكلت في الفترة المعاصرة أسس العلاقات العربية الهندية:
1. دور حزب المؤتمر الوطني الهندي Indian National Congress وسياسات عدم الانحياز التي انتهجها، والتي جعلت السياسة الهندية أقرب للموقف العربي في ظلّ سياسات رئيس الوزراء الهندي الأول بعد الاستقلال جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru في موضوع القضية الفلسطينية، مع تزايد في هذا الموقف قوة في فترات رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غانديIndira Gandhi (1966-1977، وفترة 1980-1984)، وكانت الهند هي أول دولة غير عربية وغير إسلامية تعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنحها التمثيل الديبلوماسي الكامل. وعلى الرغم من أن الهند قبلت الاعتراف بـ”إسرائيل” سنة 1950، الا أن التمثيل الديبلوماسي بين الطرفين لم يتم إلا سنة 1992، وهي الفترة نفسها التي تبادلت فيها الصين و”إسرائيل” التمثيل الديبلوماسي.[10]
2. تزايد الحاجة الهندية إلى النفط العربي مع تزايد معدلات التنمية والتطور التكنولوجي الهندي. فقد أدى النمو الاقتصادي المتواصل في الهند إلى زيادة الحاجة للنفط العربي لا سيّما أنه أقرب مصادر الطاقة من الناحية الجغرافية للقارة الهندية، فحتى سنة 2023 بلغت نسبة تغطية النفط العربي للحاجة الهندية نحو 60%، بينما تصل التجارة العربية الهندية إلى 240 مليار دولار أغلبه مع دول الخليج، منها 84 مليار دولار مع الإمارات العربية و53 مليار دولار مع السعودية.[11]
3. اتّساع قاعدة العلاقة التجارية والديموجرافية بين الهند وكل من "إسرائيل” والدول العربية خصوصاً في منطقة الخليج، فقد تحولت "إسرائيل” لتكون المصدر الثاني لمشتريات السلاح الهندية حتى سنة 2022 بعد روسيا. وتمتد جذور التعاون العسكري الهندي الإسرائيلي إلى فترات الصراع الهندي مع الصين (سنة 1962، وسنة 1999)، ومع باكستان (سنة 1965)، وقد ارتفعت معدلات نسبة "إسرائيل” في مشتريات السلاح الهندية من 4.7% خلال الفترة 2010-2015 إلى 13% خلال الفترة من 2015-2020، وشكّل تولي حزب بهاراتيا جاناتا Bharatiya Janata Party الهندوسي سنة 2014 نقلة كبرى في وزن الهند في مبيعات "إسرائيل” العسكرية، وأصبحت الهند هي السوق الأول للصناعات العسكرية الإسرائيلية، وتصل إلى 42.1% من صادرات "إسرائيل” العسكرية، تليها أذربيجان 13.95%، ثم فيتنام 8.5%، وكلها دول آسيوية.[12]
أما مع العالم العربي، فقد بلغ حجم التجارة العربية الهندية ما قيمته 240 مليار دولار كما أشرنا اعلاه، إضافة إلى عامل التواجد الديموجرافي الهندي في المنطقة، فقد بلغ عدد الهنود في الخليج العربي طبقاً لأرقام الحكومة الهندية نحو 8 ملايين و 751 ألف نسمة، منهم أكثر من 3 ملايين في دولة الإمارات، ونحو 2 مليون ونصف في السعودية،[13] وهو ما يجعل من الهنود الفئة الثانية في ترتيب أعداد السكان في دول الخليج العربي بعد السعوديين.
وشكلت كل هذه العوامل أساساً لطرح فكرة الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي عبر الشرق الأوسط، فاستناداً إلى مذكرة تفاهم بين حكومات السعودية، والاتحاد الأوروبي، والهند، والإمارات العربية المتحدة، وفرنسا، وألمانيا الاتحادية، وإيطاليا، والولايات المتحدة، التزم المشاركون في مؤتمر قمة العشرين G20 Summit في أيلول/ سبتمبر 2023، بالعمل معاً لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بهدف حفز التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا.
وسيتألف الممر من فرعين منفصلين هما الممر الشرقي الذي يربط الهند بالخليج العربي، والممر الشمالي الذي يربط الخليج العربي بأوروبا، وسيشمل خطاً للسكك الحديدية سيوفر عند اكتماله شبكة عبور فعالة تربط الموانئ الحالية بشبكة من السكك الحديدية لتكملة طرق النقل البحري والبري الحالية، مما يتيح العبور من وإلى الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن و”إسرائيل” وأوروبا. ويعتزم المشاركون مدّ كابلات الكهرباء والاتصال الرقمي على طول طرق السكك الحديدية، إضافة إلى الأنابيب لتصدير الهيدروجين النظيف. وسيعمل هذا الممر على تأمين سلاسل التوريد الإقليمية وعلى طول مسار سكة الحديد بشكل يزيد من يُسر التدفق التجاري، ودعم التركيز المتزايد على التأثيرات البيئية والاجتماعية والحكومية، وكل ذلك بهدف استراتيجي هو زيادة الكفاءة، وخفض التكاليف، وتعزيز الوحدة الاقتصادية، وتوليد فرص العمل، وخفض انبعاثات غازات الدفيئة، مما يؤدي إلى تكامل تحويلي لآسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
ودعماً لهذه المبادرة، يلتزم المشاركون بالعمل بشكل جماعي وسريع لترتيب وتنفيذ جميع عناصر العبور الجديدة هذه. وسيربط المشروع بين عدة موانئ على طول الطريق، بما في ذلك حيفا في فلسطين المحتلة 1948 "إسرائيل”، وبيرايوس Piraeus port في اليونان، وثلاثة موانئ على الساحل الغربي للهند هي: موندرا Mundra، وكاندلا Kandla، وجواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru، وهناك خمسة موانئ في الشرق الأوسط سترتبط بالموانئ الهندية، وهي الفجيرة، وجبل علي، وأبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى موانئ الدمام، ورأس الخير في المملكة العربية السعودية.
ثالثاً: التنافس الهندي الصيني
تشكلت أغلب الوحدات السياسية في المشرق العربي خلال القرن العشرين نتيجة تفاهمات وتقسيمات ومناورات بين الدول الأوروبية (منذ الثورة العربية الكبرى وصولاً لهزيمة الدولة العثمانية، وسايكس بيكو Sykes-Picot ، ووعد بلفورBalfour Declaration ، وإقامة "إسرائيل”،…إلخ)، ولا يمكن فصل الخريطة الجغرافية ولا الوقائع السياسية في هذه المنطقة عن هذا التنافس الأوروبي الإنجليزي الفرنسي الإيطالي الألماني…إلخ.
وفي الفترة المعاصرة، ثمة دولتان آسيويتان متجاورتان وصاعدتان ومتنافستان اقتصادياً وتكنولوجياً وهما الهند والصين، وقد تمدد تنافسهما إلى المنطقة العربية، مع ضرورة التنبه إلى أن العلاقة بين هاتين الدولتين يغلب عليها التنافس الحاد على الرغم من أن الصين تمثل الشريك التجاري الثاني للهند، لكن العداء والتنافس هو السمة الأعم بين الدولتين، وهو ما يتضح في المؤشرات التالية:[14]
1. إرث عداء تاريخي بين البلدين تخللته اشتباكات عسكرية منذ نحو أكثر من ستة عقود، وتكرر ولو بحدة أقل سنة 1962، وسنة 1967، و1987، و2018، و2020، وآخرها كان في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ويتمركز هذا الصراع حول مناطق حدودية (نحو 3 آلاف كم) خصوصاً في هملايا. وحول إشكالية ترسيم الحدود بين البلدين؛ وتنفي الصين وقوع الترسيم وتطالب به، بينما ترى الهند أن الحدود التقليدية هي الحدود الفعلية. ويدور تنافس آخر بينهما في بحر الصين الجنوبي وخصوصاً حول التنقيب عن النفط في هذه المنطقة، إلى جانب سياسات التحالف لكل منهما ضدّ الآخر، وهو ما يتضح في التقارب بين الصين وباكستان (العدو التقليدي للهند)، أو في التقارب الإيراني الصيني على حساب تراجع العلاقة الهندية الإيرانية بقدر ما، ناهيك عن تنامي العلاقة الهندية الأمريكية في ظلّ تردي العلاقة الأمريكية الصينية، ومساندة الهند لسياسات الحصار على بعض القطاعات الاقتصادية الصينية.
2. التنافس الهندي الصيني في جنوب آسيا (أفغانستان، وبنغلاديش، وبوتان، والمالديف، ونيبال، وسيريلنكا، وباكستان). ومعلوم أن معظم دول جنوب آسيا مشاركة في الحزام والطريق (باستثناء بوتان)، وهو ما يترك انطباعاً هندياً بالتطويق لها، وخصوصاً مع التواجد الصيني في أهم موانئ المنطقة في باكستان وبنغلاديش وسريلانكا، على الرغم من أن الهند تمكنت من تحقيق تحسين نسبي لعلاقاتها مع هذه الدول.
3. مشاركة الهند في مجموعة "الحوار الأمني الرباعي Quadrilateral Security Dialogue” التي تأسست في أيار/ مايو 2022، وجمعت كلاً من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وهو ما عدّته الصين "ناتو آسيوي” لأنه يدعو لتعميق العلاقات العسكرية بين الدول الأربعة إلى جانب التعاون الاقتصادي والديبلوماسي.
4. العلاقة بين "إسرائيل” وكلّ من الهند والصين. فإلى جانب مشاركة "إسرائيل” في المبادرة الصينية (الحزام والطريق) والممر الهندي الاقتصادي، فإن مجموعة ما يسمى "أي2 يو 2 أو I2U2” تضم "إسرائيل” والهند والولايات المتحدة والإمارات العربية، وهدفها تشجيع التعاون بين القطاعات الخاصة ورجال الأعمال في الأطراف الأربعة في قطاعات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي والتكنولوجيا، وهو ما ترى فيه الصين نوعاً من التأثير على مشروعها، كما أنه قد يُوجد إشكالات عربية أو إيرانية مع الهند.
رابعاً: نظرية انتشار النزاعات الدولية
تشير أغلب دراسات العلاقات الدولية إلى أن الحروب أو النزاعات الدولية لا تبقى حبيسة بين أطراف النزاع المباشرين، بل إن تتبع النزاعات والحروب الدولية يوضح وبالقياس الكمي أن النسبة العظمى من النزاعات الدولية تركت آثاراً مباشرة أو غير مباشرة على الدول المجاورة والبعيدة وغير المنخرطة في تلك النزاعات. ولا شكّ أن تطور وسائل الترابط التقني والتجاري واختصار الزمن والمسافات في ظلّ العولمة المتسارعة، جعل الوقاية من تداعيات الصراعات الدولية أمراً في غاية التعقيد، ويزداد التأثير والانتشار إذا كانت الدول المنخرطة في التنافس أو النزاع أو الحرب دولاً كبرى، أو دولاً متجاورة جغرافياً، أو متداخلة ديموجرافياً.
ولما كانت العلاقات الصينية الهندية علاقات أقرب للتوتر، وكلا الدولتين منخرطة في علاقات تجارية، وجيو-اقتصادية، وتواجد سكاني، إلى جانب الانخراط في علاقات مع دول متخاصمة في المنطقة ("إسرائيل” وإيران، سورية و”إسرائيل”، اليمن ودول الخليج، سورية وتركيا…إلخ)، فإن ذلك ينعكس على علاقات الدولتين مع الدول العربية من ناحية، وقد يضيف للمحاور المتنافسة (دول التطبيع ودول المقاومة) محاور جديدة، بعضها أقرب للصين والآخر أقرب للهند من ناحية ثانية، لا سيّما أن القوى الدولية الكبرى (الولايات المتحدة، وروسيا، وبعض النفوذ الأوروبي)، منخرطة في الأوضاع العامة لإقليم الشرق الأوسط، وهو ما سيزيد احتمالات إضافة عناصر عدم استقرار إلى المنطقة، على الرغم من أنها الأقل استقراراً بين أقاليم العالم كلها.[15]
خامساً: مستقبل المنطقة في ظلّ التنافس الهندي الصيني
من الضروري تحديد مستقبل المنطقة في ضوء التنافس بين القطبين الآسيويين من خلال طرح عدد مما يسمى الاستفهام الإنكاري:
1. هل المشروع الهندي هو "عرقلة” للمشروع الصيني في ظلّ التنافس بين البلدين اقتصادياً، وفي ظلّ النزاعات التي أشرت لها بينهما، مع ملاحظة أن السياسة الهندية في ظلّ حكم حزب بهارتيا جاناتا الهندوسي أصبح أكثر ميلاً للسياسات الأمريكية، خلافاً لما كانت عليه السياسة الهندية في فترة حكم حزب المؤتمر، مع الإشارة إلى أن نحو 26 حزباً هندياً تحالفوا مؤخراً لمواجهة حزب جاناتا في انتخابات الشهور الأولى من سنة 2024 القادم. ولعل التأييد المباشر لكل من الرئيس الأمريكي جو بايدنJoe Biden ، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهوBenjamin Netanyahu للمشروع الهندي يعزز الهواجس التنافسية، لا سيّما أن الهند هي الزبون الأول في أسواق الأسلحة الإسرائيلية منذ سنة 2014 بعد سيطرة بهاراتيا جاناتا. وهنا، قد يكون الممر الاقتصادي الهندي خطوة لتوسيع التطبيع السعودي الإسرائيلي عبر غطاء المشروع الهندي من ناحية، ومزاحمة أمريكية لتعطيل المشروع الصيني من ناحية ثانية.
2. كيف ستوفق السعودية بين ترابطها مع الهند ومع الصين، في حالة نشوب نزاع حاد بين العملاقين الآسيويين؟
3. هل تنافس المشروعين سيجعل الوصول إلى قرارات استراتيجية في البريكسBRICS ومنظمة شانغهاي للتعاونShanghai Cooperation Organization أكثر تعقيداً؟ فقد يشلهما في ظلّ التباينات الصارخة بين القوى الكبرى في هذا التكتل؟ وهل كان ضم دول "غربية الهوى إلى البريكس "مؤخراً محض صدفة؟ أم جزء من مخطط يستهدف الصين؟
4. ما هي احتمالات وقوع ضرر على مكانة قناة السويس إذا تمّ عبور المنطقة عبر سكك حديدية من إيلات إلى حيفا، أو إلى حيفا مباشرة ليتجاوز القناة؟ فالدراسات الهندية الأولية للمشروع تشير إلى أن المشروع يختصر الفترة الزمنية لنقل البضائع من حيفا إلى أوروبا، على الرغم من أن هناك تباينات بين الخبراء في تقدير مدة الاختصار ما بين 4-6 أيام أو ما بين 8-12 يوماً، بينما قدَّرته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين Ursula Von der Leyen بأنه يوفر 40% من الزمن الحالي،[16] وهو ما يهدد المصدر الثالث للدخل المصري بعد تحويلات العاملين في الخارج والسياحة. وفي دراسة سبق لكاتب هذه السطور أن نشرها سنة 2000، أشار إلى مناقشات إسرائيلية لجعل قناة السويس أقل شأناً في إطار النقل الدولي، وإلى تشجيع مشروعات آسيوية في هذا المجال،[17] وهو ما يشكل نهشاً جديداً لاقتصاد مصر بعد النهش الذي سيتركه سدّ النهضة الإثيوبي، وهو ما يعزز ما ذهبنا إليه من تخطيط إسرائيلي لإضعاف مصر بطرق غير مباشرة.[18]
5. أشرنا أعلاه إلى أنه يعيش نحو تسعة ملايين عامل هندي في دول الخليج (وهو عدد يفوق عدد سكان أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء السعودية)، كما أن عدد الشركات والموظفين الصينيين في دول الخليج لا يقل عن 2.5 مليون نسمة، فهل سيكون هذا سبباً كامناً لاحتمال وقوع اضطرابات بين الطرفين على الأرض العربية في حال اشتداد التنافس والتنازع بين الهند والصين.
6. المساندة الغربية للمشروع الهندي على حساب الصيني: فقد رحّبت الولايات المتحدة و”إسرائيل” والمفوضية الأوروبية للاتحاد الأوروبي بالمشروع الهندي، بل إن التقارير الإعلامية تحدثت عن أن مجموعة الدول السبع G7 تعهّدت في اجتماعها في طوكيو في أيار/ مايو 2023 بأن تقدم نحو 600 مليار دولار حتى سنة 2027 بهدف مواجهة تداعيات المشروع الصيني، مع ملاحظة أن المشروع الصيني تمّ تأييده من 150 دولة و30 منظمة دولية، وباعتماد مبالغ مالية أولى له بنحو تريليون دولار لإنشاء 3 آلاف مشروع، على أن يكتمل المشروع سنة 2049،[19] فهل سيتم توظيف هذا الاستقطاب بين المشروعين لإدارة صراعهما على الأرض العربية؟
7. هل ستجد الدول العربية نفسها خصوصاً الخليجية (مثل السعودية والإمارات العربية)، أو التي يمر منها المشروعان (الهندي والصيني)، أو أحدهما، أمام ضرورات الاختيار بين العملاقين، كما فعلت إيطاليا التي أعلنت أنها ستنسحب من المشروع الصيني؟ وماذا عن مواقف الهنود التسعة ملايين إذا اتخذت دولة عربية موقفاً مناقضاً للموقف الهندي؟
8. ما هي احتمالات ومؤشرات العسكرة للمشروعين؟ حيث أجرت الهند تدريبات عسكرية مع بعض دول المنطقة مثل السعودية والإمارات وسلطنة عُمان ومصر في سنة 2023،[20] وفي كل مرة يتسع نطاق التدريبات بين الطرفين. ومنذ سنة 2019، تُجري البحرية الهندية تدريبات سنكالب Sankalp، والتي بموجبها تمّ تكليف سفنها الحربية بتوفير الأمن للسفن التي ترفع العلم الهندي، وتحديداً ناقلات النفط، في أثناء إبحارها في مضيق هرمز وخليج عُمان وسط تصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة. كما قامت البحرية الهندية بتعيين ضابط اتصال في القيادة المركزية الأمريكية CENTCOM في البحرين، مع الأفراد نفسهم المكلفين بتطوير تعاون الهند مع القوات البحرية المشتركة التي تتخذ من المنامة مقراً لها، وهي قوة مكونة من 38 دولة من بينها باكستان (الخصم التقليدي للهند). وقد تمّ تعزيز هذه التطورات خلال الحوار الوزاري 2+2 في نيسان/ أبريل 2020 بين نيودلهي وواشنطن. وهو ما يشير بشكل واضح إلى بُعدين في التخطيط الهندي في المنطقة، هما البُعد الاستراتيجي والبُعد الاقتصادي، وهو ما يستوجب طرح سؤال مركزي هو كيف ستوفق الهند في استراتيجيتها بين "إسرائيل” وإيران والمملكة العربية السعودية، بكل التباينات بين هذه الأطراف الإقليمية المهمة؟ وقد تمكنت الصين، في الوقت الحالي، من القيام بذلك من خلال الاستفادة من ثقلها الاقتصادي ومصالح الدول الإقليمية في استخدام بكين كثقل موازن للولايات المتحدة، وسوف تحتاج الهند إلى إيجاد طرق أخرى لتحقيق التوازن، وتحديداً في علاقاتها مع إيران التي تواجه نظام العقوبات الذي فرضته واشنطن عليها، وهو ما يتضح في أن نيودلهي أوقفت واردات الطاقة من طهران امتثالاً للعقوبات وإظهاراً للنوايا الحسنة تجاه الولايات المتحدة، وعوّضت النفط الإيراني بنفط روسي في ظلّ الحرب الأوكرانية.[21]
9. ماذا لو بدأت الدولتان (الصين والهند) في عسكرة وجودهما في مرحلة لاحقة، كما أشرنا لمقدماته في النقطة السابقة، فإذا تصاعد الخلاف والتنافس بينهما هل سيتم إقامة قواعد هندية أو صينية في دول الخليج أو باكستان، أو في دول القرن الإفريقي من جيبوتي حتى السودان لحماية مصالحهما؟ وهو ما سيزيد من مؤشر العسكرة في الشرق الأوسط. فإلى جانب ما أشرنا إليه من سياسات هندية في اتجاه العسكرة، فإن الصين مارست عسكرياً نشاطات لحماية مواطنيها في عدد من الدول العربية، أو إنقاذهم خلال فترات عدم الاستقرار، وبناء بعض القواعد العسكرية أو التسهيلات العسكرية لها، وهو ما أوضحه الكتاب الأبيض White Paper الذي أصدره المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصينيThe State Council Information Office of the People’s Republic of China سنة 2019، والذي نصّ على حماية المصالح والأفراد والهيئات الصينية في الخارج، ناهيك عن مبيعات السلاح للدول على طول الطريق والحزام، فمثلاً كان 47% من مبيعات السلاح الصيني خلال الفترة 2017-2021 موجهاً لباكستان (العدو التقليدي للهند)، كما ارتفعت مبيعات الصين العسكرية خلال الفترة من 2012–2021 بمعدل 290% إلى السعودية، و77% إلى الإمارات.[22]
الخلاصة:
تشير المعطيات السابقة إلى:
1. إن أهمية المنطقة العربية لكل من الصين والهند (كأسواق ومصادر طاقة ومواقع امتصاص عمالة كبيرة) يجعل العملاقان الآسيويان أكثر حرصاً على التواجد في المنطقة.
2. إن الخلافات الصينية الهندية خلافات عميقة، وقد تدفع لجر المنطقة العربية لروابط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية لإدارة الصراع الهندي الصيني، خصوصاً في ظلّ انعدام استراتيجية عربية موحدة.
3. قد تعرف منطقة الخليج اضطرابات اجتماعية إذا ما اتخذت دول عربية سياسات غير متوافقة مع توجهات الدولتان الآسيويتان، ويبدو أن هذا الاحتمال مع الهند أعلى منه مع الصين.
4. إن احتمالات العسكرة للمنطقة في حال اتساع مصالح البلدين هو أمر غير مستبعد، مما يترك اثاراً على سياسات المنطقة ومستويات استقرارها، خصوصاً إذا ترافق التنافس الآسيوي مع تحالفات غربية مع الهند، وخصوصاً من الجانب الأمريكي في الشرق الأوسط لمواجهة المشروع الصيني.
5. إن "إسرائيل” تحاول الاحتفاظ بعلاقاتها مع القوّتين الآسيويتين، وتبدو ناجحة بقدر معقول في هذا الجانب، وهو ما يشكل تحدياً لبعض قوى المنطقة مثل إيران، وسورية، وأجنحة المقاومة العربية الأخرى، وهو ما يستوجب من الطرف العربي دعم التواصل مع المعارضة الهندية لحزب بهارتيا جاناتا، وخصوصاً حزب المؤتمر الهندي، وإبقاء "التواصل” مع التيار الأقل براجماتية في الحزب الشيوعي الصيني للاستفادة من توصياتهما تجاه المنطقة.
6. إن الآفاق الاستراتيجية للمشروعين الهندي والصيني تشير إلى احتمالين متضادين هما:
أ. تحويل الصراع في المنطقة من صراع صفري Zero–sum Game إلى صراع غير صفري Non Zero Sum Game، من خلال إدماج "إسرائيل” في قلب المشروعات العربية الآسيوية، وهو ما تسعى له "إسرائيل” وكلاً من الهند والصين طبقاً لمشروعيهما، وهو ما سيوسع دائرة المصالح المشتركة بين أطراف المشاريع على حساب المصالح المتناقضة التي تقع القضية الفلسطينية في صلبها.
ب. فشل الاحتمال الأول يعني تزايد التنافس الآسيوي بين المشروعين الهندي والصيني، مما قد يدفع إلى عسكرة المنطقة وزيادة الاستقطابات الإقليمية للمشروعين، مما يجر المنطقة لصراعات جديدة وعدم استقرار أعلى من مستوياته الحالية، خصوصاً أن الطرف الغربي سيبقى حاضراً في هذه الاستقطابات خلال الفترة المتوسطة القادمة مما يزيد الوضع تعقيداً.