الصورة تحكم العالم وتدين القاتل



من الواضح أن الصورة أصبحت قادرة على فرض روايتها ما أسقط هيمنة وسائل التعبير الأخرى عن عرشها، رغم عمق تحليلها في الكتاب والصحيفة والمدوّنات ورغم ضرورتها لمن يبتغي العمق، ولمن ينهد نحو امتلاك حقيقة ما وراء الحدث أو الفعل، ولمن يبتغي الاحتفاظ بالوعي وقدرته على بناء خلفية فكرية حكيمة، تمكنه من الفرز والتمحيص والتفكير والتبصر والتحليل والتقرير.


إن إغراء الصورة الثابتة أو المتحركة كبير، فهي تريح الشخص من عناء التفكير، وتدخله في منطقة الانفعال والتخيل، او الحلم وهو الأكثر سطوة فيستسلم للضخ القائم فيها أكان صادقًا ام كان مضلّلًا لذا وجب التنبّه لأهمية المرجعية الفكرية والنقدية وثبات الإلتصاق بالعقل وأدوات التفكير، وهذا لا يتأتى الا بالقراءة العميقة والمثابرة والدائمة في ظل التنوع والوعي وعدم اللجوء للخرافات أوما يتوافق مع الهوى الشخصي أو الامنيات فيريح الشخص نفسه، ويعيش في سعادة عزلته ضمن فقاعته، ويلغي عقله.


اعتلت الصورة عرش التأثير في الناس مع الوسائط الحديثة سريعة النقل مثل (واتساب، وتكتوك، وانستغرام، وتلغرام، ويوتيوب وفيسبوك...الخ.)، ورغم امكانية تزييف الصورة بسهولة في الوضع الحالي حيث سوء استخدام الذكاء الالكتروني أو تقصّد ذلك، أوعبر تزييفات برنامج (فوتوشوب) وأمثاله، إلا أن الصورة الثابتة أو المتحركة قد استحقت عرشها وفرضت روايتها.


نتذكر عبر التاريخ مجموعة من الصور (الضوئية) الثابتة التي أعطت تأثيرها في الإطار العربي الفلسطيني مثل صورة مخيمات اللاجئين إثر النكبة عام 1948م، وصورة الملك الحسين على الدبابة في معركة الكرامة والمقاومة الفلسطينية، وصورة الارهابي باراك يعبث بجثة دلال المغربي، وصورة الخالد ياسر عرفات في الامم المتحدة وغصن الزيتون، وأيضًا صورته يقبّل رأس الشيخ أحمد ياسين، وصورة الصبي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي في انتفاضة الحجارة، وصورة الطفل فارس عودة بمواجهة الدبابة الإسرائيلية، كما صورة الأب الذي يحتضن ابنه محمد الدرة إبان الانتفاضة الثانية وذلك في غزة وحيث إطلاق النارعليهما وهم العزل. ولك أن ترى صورة الأيقونة الفلسطينية الطفلة ثم الشابة عهد التميمي في مواجهة الاحتلال بالضفة الغربية من فلسطين.


ومن الصورة البارزة عربيًا صورة الرئيس جمال عبد الناصر يحيي الجماهير الغفيرة، وصورة لقاء الملك عبدالعزيز آل سعود بالرئيس الامريكي على متن السفينة. وصورة عمر المختار بقبضة الاحتلال الإيطالي لليبيا، وعشرات الصور العربية أوالفلسطينية الاخرى التي مازالت تثير الانفعالات وتؤثر في الموقف والتحليل والتقييم ووجهة النظر.


أما عالميًا فإن الصورة المرسومة (اللوحة الفنية) للثورة الفرنسية الممثلة بفتاة في أتون الثورة مازالت تؤسس لفكرالثورات وتعطيها الانطباع الدائم. كما الحال مع لوحة الحرب الأهلية الاسبانية التي رسمها الفنان بيكاسو والمسماة (غرنيكا).
ويمكنك أن تفهم في ظل الدعاية الشيوعية صورة (هي لوحة) الرباعي الصارم الوجوه كارل ماركس، وانجلز، ولينين وستالين قادة الثورة الشيوعية.


كما برزت صورة أخرى من عمق التاريخ (هي عبارة عن لوحة مرسومة) لنابليون ممتطيًا فرسه، وأيضًا صورة الثائر تشي غيفارا بطاقيته العسكرية ذات النجمة الحمراء.


والى ذلك فإن صورة الفتاة التي تصرخ عارية وهي تركض بالشارع في فيتنام كان لها فضل وأيما فضل في تنبيه العقل الاستعماري الامريكي للخروج، كما صورة القائد الفيتامي الجنوبي (مع أمريكا) يعدم معارضًا بطلقة من مسدسه برأسه أمام الجميع، ولا تنسى صورة بشاعة القنبلة الذرية الامريكية الملقاة بوحشية على هيروشيما.


في الإطار الفلسطيني الثوري منذ الانطلاقة عام 1965 فلك أن ترى عديد الرسومات واللوحات والملصقات والصور الثابتة التي تتدرج معك لتصل الى اليوم عام 2023 فلا تستطيع أن تدرك حجم تفوق الصورة التي أفزعت العالم (اللوحة والصورة الثابتة والمرئية المتحركة) الا في العدوان الاسرائيلي على شعبنا الفلسطيني في فلسطين وبالأخص في الرئة الجنوبية بقطاع غزة عام 2023م.


اليوم لا داعي لتبحث في القديم عن صورة ما تتعلق بالقتل أو الذبح او القصف، أو صورة الحزن الممزوج بالصمود، أوصورة تقطيع الأرجل أو الأيدي، أو تشويه الوجوه أو اقتناص الدموع أولتسمع همس العبارات العفوية لطفلة واجمة أو مندهشة أومستصرخة، ولا داعي للبحث عن وصف لآهات وزفرات التهجير مع صرخات الناجين من التدمير والحريق.



يمكنك ببساطة أن ترى صور ومرئيات القتل المباشر على الهواء، وكأن القاتل يتعامل مع وحش بشري! (زومبي) تمامًا كما كان يفعل سلفه الاستعماري الاوربي الأبيض البغيض ولكن بعيدًا عن الصورة!


وكما يقول الكاتب سمير عطا الله في صحيفة الشرق الأوسط عن الشهادات والدلائل التي منها قطعًا صورة البث الحي:(هذه المرة يمتلك العرب وثائق وشهادات وبراهين لم يمتلكوها من قبل. يمتلكون العالم كله، كشاهد حيّ. وعلينا أن نسأل أطفال غزة (ونساءها ورجالها) ماذا تناولوا من طعام اليوم، وكم كوباً من الماء شربوا، وفي أي حمام استحموا منذ ثلاثة أشهر.)



لا داعي اليوم لتبحث عن مشهد مرئي (شريط) مصطنع (تمثيلي) يعالج حجم سقوط آمال أطفال غزة، لكن مع شموخ رؤوسهم وتطلعهم للمستقبل من تحت الرماد، هم وأبطال الضفة الفلسطينيين العِظام، فالمشهد الحيّ أمامك يقول ما لايستطيع شريطك (فلمك) أن يقوله!


ليس لك أن ترى بعينيك الزائغتين أو المسمرتين على القنوات او المقاطع المرئية الحية حيرة عيون الأطفال وعزم الرجال والنساء، وبياض قلوب الفتيات والأطفال وبراءتهم وتحطم جدار تطلعاتهم الا مع هذا الفيض اليومي المأساوي الذي لا ينقطع بثه، مرتبطًا بوسائل الاعلام الحديثة، وبما يزودنا به الحريق الصهيوني والكارثة والمذبحة التي لا تتوقف.


يمكنك عمل آلاف الأشرطة (الأفلام) مما تراه يوميًا، وأنت في أشد حالات الغضب، أو حين تبكي أوتغص في حنجرتك الكلمات ويا لك من مناضل نحبك حينها، إذ تقتنص اللحظة فتسهم بنضالك الفني في نشر وأبداع الرواية ضمن سيناريو حقيقي مباشر.


بالمقلب الآخر تجد ذاك اللاهي العابث السفيه الذي يتفرج على الأحداث المفزعة، ضمن التبديلات بالمحطات مع المسلسلات التركية أو الإيرانية أو الأمريكية أو العربية، وباعتبار مسلسل المذبحة في فلسطين أحدها فلا تتحرج مطلقًا أن تشاهد راقصة أو حفلًا فنيًا، اوتمد يدك على وليمة خرفان كان الاجدر ألا تكون أحدها.


لقد أسقطت الصورة كثيرا من المسلمات في العقل الصهيوني وحتى الأوروبي ومثله الامريكي فلم تعد "إسرائيل" الدولة الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط وأسقطت الصورة الجيش "الأخلاقي" كما أسقطت كذب العالم وخديعة الدول "التقدمية" وخديعة الامم المتحدة مكتوفة الأيدي والعاجزة عن أي فعل.


المتمرد الفلسطيني بفضل الصورة الثابتة والمتحركة أساسًا –كما أفضال الكلمة- صنع صورته المناضلة والمكافحة والثائرة كما الفلسطيني المقموع والمقتول والمحطمة جدران بيته وجدران حلمه المحتضن، والى ذلك صنع ثورة في العالم أجمع، تشكلت بفيضان بشري يحتضن القضية الفلسطينية لذات فلسطين وشعبها البطل وانتصارًا لحقه في الحياة وحقه في تحرير دولته القائمة تحت الاحتلال.