الذكاء الاستراتيجي والمستقبل
كثيراً ما نسأل عن المفهوم الحقيقي للاستراتيجية وتداعياتها؛ فكبار المُنظّرين الاستراتيجيين ككلاوزفيتز عرّفوا الاستراتيجية على أنها «فن استخدام المعارك وسيلةً للوصول إلى هدف الحرب»، وعرّفها ليدل هارت على أنها «فن توزيع واستخدام كل أنواع الوسائط والبدائل العسكرية للوصول إلى أهداف السياسة»، بينما عرّفها مولتكه على أنها «الإجراءات والتدابير العملية للوسائل الموضوعة تحت إمرة القائد ليحقق الأهداف المطلوبة»، والاستراتيجية، من خلال هاته التعاريف، توحي بأنها فن وعلم، وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة بدأت تنمو وتتسع لتشمل ليس فقط المجالات العسكرية وإنما أيضاً المجالات التنموية والاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك.
وبذلك أضحت هاته الكلمة تحيل إلى صياغة السياسة وتنبؤ المستقبل وأخذ القرارات الصحيحة والتأثير على الأحداث تماشياً مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانات. ويكفي أن الجامعيين والأكاديميين المختصين في السياسات العمومية يُفردون لها فصولاً يُدرّسونها لطلبتهم ويبنون عليها نظرياتهم وتوجيهاتهم.
ويمكن أن نعطي أمثلة على ذلك، فقد أقر مجلس الشيوخ الأميركي، منذ مدة وفي لحظة تفاهم نادرة بين الديمقراطيين والجمهوريين، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات كبيرة في التكنولوجيا المتطورة؛ وقد توقّف الرئيس جو بايدن مطوَّلاً عند هاته الاستراتيجية، قائلاً إن الولايات المتحدة «تخوض منافسة لكسب رهان القرن الحادي والعشرين». وأردف الرئيس: «مع مواصلة البلدان الأخرى استراتيجيتهم في الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها، لا يمكننا أن نتخلف عن الركب»؛ بمعنى أن هاته في نظره هي الاستراتيجية الحقيقية التي يجب أن تتبعها بلاده لتحافظ على مكانتها باعتبارها الدولة الأكثر إبداعاً وإنتاجية في العالم. وتقضي الخطة بتخصيص أكثر من 170 مليار دولار لأهداف البحث والتطوير، كما تسعى بشكل خاص إلى تشجيع الشركات الأميركية على أن تنتج على الأراضي الأميركية أشباه مُوصلات تتركز صناعتها حالياً في آسيا، خاصة في الصين التي تستثمر أكثر من 150 مليار دولار في هذه التقنيات.
وبدأت دول عدة من العالم تأخذ خطوات استراتيجية للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، انطلاقاً من تدريسه في الجامعات كعلم حديث، وصولاً إلى تشجيع وخلق شركات متخصصة في هذا المجال؛ لأنها تؤمن بأن الذي سيفوز في السباق على تقنيات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي، سيكون القائد في الاقتصاد العالمي، وبأن الأمم ستصنع العالم على صورتها... وأقول دائماً لطلبتنا في الجامعة إن الدول التي تقوم بإصلاحات استراتيجية ذكية في المجالات الصناعية والتنموية والاقتصادية هي التي يمكنها أن تفوز برهانات المستقبل؛ وهاته الإصلاحات يجب أن تكون عبارة عن استراتيجية تبني قاطرة محركة تجلب كل عربات القطار؛ بمعنى آخر أن بعض الاستثمارات الذكية يمكنها أن تجلب معها كل أشكال التنمية وتضمن الرقي والتقدم والتموقع الجيد للمجتمعات؛ أما تضييع الوقت في إصلاحات هامشية أو «عرباتية»، فإنها لا يمكن أبداً أن تُحرك قطار التنمية؛ فهي ولو كانت ضخمة، ستبقى حبيسة مكانها...
ونحن إذ نتحدث عن البعد الاستراتيجي في المجال التنموي، لا بد أن نطرح في بلداننا مسألة التخصصات ووظائف المستقبل، في ظل التحولات المتسارعة وغير المسبوقة التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي التي تثير بدورها العديد من التساؤلات حول مستقبل منظومة التعليم وعلاقتها بوظائف المستقبل، وخاصة في ظل الدراسات الاستراتيجية التي تتوقع أن تحلّ الروبوتات والأجهزة الذكية مكان الإنسان في كثير من مجالات الحياة والوظائف في السنوات المقبلة. فالدول التي ستتموضع أكثر في قائمة الدول الناجحة علمياً هي الدول التي ستنجح في تطوير القوى العاملة الوطنية وتعزيزها بشكل مستمر، وبما يتناسب مع التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، ولا سيما في مجالات الاقتصاد المعرفي والثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي.
إن الاستراتيجية متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والاستراتيجي يكون له نسق فكري متّقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شِبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوّة ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالاستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفاً.
ثم إن عمل الاستراتيجي يكون مختلفاً عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري مثلاً، يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى، كما يرتئيه الاستراتيجيون؛ أي أن مجال تدخُّله يبقى مرتبطاً بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ هذا هو دوره، أما عمل الاستراتيجي فهو أهم من ذلك، فالحل العسكري عند الاستراتيجي مثلاً ليس هو الغاية الوحيدة لتحقيق الأهداف العليا للوطن، بل هناك وسائل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية ينهجها الاستراتيجيون للوصول إلى الأهداف المُبتغاة.
فعندما دشّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ أيام، بمدينة سيفيرودفينسك شمال البلاد، غواصتين تعملان بالطاقة النووية، قال إن ذلك يدخل في إطار العقيدة الاستراتيجية الروسية، وأنهما ستبدآن تسيير دوريات في المحيط الهادئ، وستعززان الجاهزية القتالية للبحرية الروسية في القطب الشمالي وفي الشرق الأوسط والبحر الأسود وبحر البلطيق. ومع قرب دخول المعارك في أوكرانيا عامها الثاني، أجرت روسيا تحولاً في استراتيجيتها لإتاحة التركيز بشكل كبير على الإنتاج الاقتصادي، وأملى عليه المخططون ما يجب صناعته للوصول إلى أهداف روسيا العسكرية والاقتصادية.
يجب أن تتضمن الرؤية الشخصية لصانع السياسة أو الخبير الاستراتيجي نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد أنه يمكن التأثير فيه وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل؛ وإذا قلنا إن الاستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنَى به، وتحاول استباق الأحداث وتجنب المشكلات المستقبلية أو ردعها أو حلّها، وهذا هو عمل الاستراتيجي.