نحن وتداعيات كلفة الاحتلال وحجم التضامن الدولي على مقولة "اليوم التالي"
ان شعبنا الفلسطيني هو صاحب الحق الحصري في تقرير مصيره واختيار قيادته ومسار مؤسساته وهيئاته الوطنية بطرق ديمقراطية ومن ضمنها حقه بالانتخاب، ولا شأن لأحد آخر بذلك . ومنظمة التحرير هي تعبير عن الهوية الوطنية من أجل الوصول لحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف من خلال تراكم تراث وتاريخ طويلين من المقاومة والكفاح الوطني والتضحيات، لا يملكها أحد سوى شعبنا كافة منذ تأسيسها عام ١٩٦٤ بالقّدس . لذا فان العمل اليوم يجب أن يتركز بكل الوسائل على وقف جريمة الإبادة المستمرة بحق شعبنا ومقدراته والدفاع عنه بالعمل المشترك والوحدة الوطنية المسوؤلة لهزيمة مخططات منظومة الأحتلال ومواجهة التحديات الجارية بالمنطقة. فالوقت الآن ليس وقت محاسبة أحد ، فكل من يعمل ويحقق إنجازات ممكن أن يُخطئ ، والمرحلة السابقة بكافة مكوناتها تحتاج إلى الجرأة في مراجعتها وتقيمها النقدي للوصول لما هو ضروري الآن من تمكين شعبنا من الحياة والصمود والمواجهة وتحرير اَسرانا ، كما ومن الحاجة الماسة لتوافق وطني جامع حول رؤية وبرنامج واضح وادوات قادرة على التعاطي مع خصوصية المرحلة السياسية القادمة بتطوير أداء منظمة التحرير وانضمام الجميع لها وتوسيع قاعدتها من قطاع الشباب على وجه الخصوص للوصول بشعبنا الى أبواب حريته وتحرره الوطني الديمقراطي ليتمكن من العيش بأمن وأستقرار وسلام .
أن اي تراكم للمتغيرات الكمية الجارية ستؤدي إلى تحولات سياسية نوعية أو ربما الى تغير بالمواقف السياسية لأطراف من المجتمع الدولي ، ونكون نحن بذلك أي فلسطين هي من تساهم في اسراع أِحدَاث التحول الجاري بالنظام الدولي وبعقلية شعوب المنطقة أيضا ، ومن ضمنهم نحن بالطبع .
من جانب آخر وهو الأهم ، فقد كان لأرتفاع كلفة الأحتلال الاسرائيلي الناتج عن العدوان الاجرامي كبيرا على ارواحهم ومالهم ومصالحهم نتيجة عمليات المقاومة النوعية المحسوبة وغير المتوقعة التي اوقعت بينهم خسائر لم تحدث سابقا بتاريخ الصراع، كما ايضا نتيجة الاشتباكات ذات الطابع الاستنزافي في شمال فلسطين مع المقاومة اللبنانية،وهو الأمر الذي يدفعهم لإعادة الحسابات والى بدايات تبلور توجهات في مجتمعهم تطالب بأنهاء ما يسمونه "بالعملية العسكرية لرابع اقوى جيش بالعالم" واستعادة اسراهم أحياء وضرورة العودة إلى الاتفاق على صفقة جديدة حول الأسرى وفق معادلات التفاوض المطروحة والتي يجب أن تؤدي إلى الإفراج عن اسرانا من زنازين احتلالهم والذين يتعرضون لابشع انواع البطش والقهر .
لقد خرجت مظاهرات الملايين من الشعوب في كل مكان وتعاظم التضامن الدولي وعادت قضيتنا إلى اولويات المشهد الدولي بصورة الشعب صاحب الحقوق السياسية التي لا تتحقق باجرءات امنية وعسكرية، بل من خلال ضرورة رفع الظلم التاريخي الواقع عليه منذ ٧٥ عاماً لحل هذا الصراع التاريخي وانهاء الاحتلال وتمكين شعبنا من حقه بتقرير المصير والأستقلال الوطني .
هذا التضامن الذي يتوجب العمل على استدامته من خلال وسائل مختلفة حتى ينتهي الاحتلال والفكر الأستعماري الفوقي مُبتكر نظام الفصل العنصري الحديث، باعتباره جوهر الإرهاب وعدم الاستقرار بكل المنطقة بل وبما يمثله من تهديد مستمر لقضايا السلم والأمن الدوليين .
لقد أدت تلك الحراكات التضامنية خلال الشهرين والجارية حتى اليوم ضد سياسات اسرائيل ، بعد أن كنا نحن سابقا ومنذ اوسلو قد قدمنا إسرائيل كشريك للسلام وابتعدنا بقدر ما عن الشعوب في بعض الدول وعن المنظمات اليسارية والتضامنية فيها،الى اكتشاف المتردد من الغرب حقائق فظائع الاحتلال وجوهره كما وطابع دولة إسرائيل ورفضها للسلام والاستقرار .
جرائم شبيهة هم أنفسهم الأوروبيين كانوا قد عانوا منها زمن الجرائم النازية بحق شعوب اوروبا ومن ضمنهم عدد من اليهود انذاك . هذا الحراك التضامني الواسع اليوم أدى إلى فرض أشكال من الضغط على الأحزاب الحاكمة باوروبا التي تنظر إلى مستقبلها الانتخابي للحكم ، فأدت إلى متغيرات لا يجوز لنا الا ان نراها اليوم حتى لا تقترن تقديراتنا بمفاهيم العبثية السياسية ، وكذلك إدراك أهمية استمرار التواصل والعمل الجاد مع الشعوب وقواها التقدمية بالعالم المناصرة للحق والعدالة وعدم اقتصاره على العمل الرسمي مع الدول على الرغم من أهميته وبكيفية صياغة خطابنا السياسي للعالم كشعب يسعى للتحرر الوطني .
لقد حرصت الولايات المتحدة على الشراكة الإستراتيجية منذ ٧٥ عاما مع دولة اسرائيل وما قبل ذلك مع مكونات الحركة الصهيونية العالمية تحت كل الظروف سندا للمحددات الواضحة العقائدية والدينية والعسكرية والجيوسياسية حتى والحضارية الغربية التي تجمعهم كما وقضايا الغاز والطاقة وما له علاقة بالاستحقاقات الاقتصادية المفترضة لاتفاقيات ابراهام للتطبيع . واستمر من خلال ادارة منحازة للصراع دون حله وفي تغييب العدالة وحقوق الشعوب .
الا ان ما يجري اليوم من حديث عن خلافات وتباين بالمواقف مع سياسات إسرائيل من جانب الادارة الاميركية بالرغم من مواقفهم التي اتسمت كما نتابع برفض وقف اطلاق النار وتأييد استمرار العدوان ، يشكل نوعا من النفاق المعتاد لهم وتصريحات ترضية لفظية مقدَمة لحلفاء اميركا بالمنطقة وللرأي العام لديهم المتحرك بفعل مظاهرات شوارعهم ، التي تُذكرنا بمظاهرات الشارع الأميركي ضد حربهم في فيتنام التي ارتكَبت الولايات المتحدة فيها الفظائع واستمرت بعدها في ارتكاب جرائم اخرى حول العالم دون رادع ، وهي نفسها الادارات الاميركية صاحبة فكر ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة ، فهي من اخترع طالبان لمحاربة السوفييت ، وهي من قاتلت طالبان وهي من انجزت اتفاقات معها على سبيل التذكير ، ولهذا ستبرر وسائلها بحسب الغايات المرتبطة بالسياسات الخارجية التي اصبحت لا تعتمد الثبات نتيجة الأزمة المختلفة الأوجه التي تعيشها الولايات المتحدة وتداعيات حربهم بالوكالة باكرانيا وما يحصل الآن بعد فشلهم بالعراق وسوريا واليمن حتى باميركا اللاتينية وفي بحر الصين .
هذا اضافة الى معارضة معظم المجتمع اليهودي الاميركي لسياسات حكومة دولة الاحتلال والتعاطي الاميركي معها وخاصة هذه الحكومة القائمة اليوم ذات المضمون الصهيوني الديني صاحب فكر الترانسفير والحسم المبكر والسيطرة على كامل ارض فلسطين التاريخية ، كما وايضا نتيجة النقاش والضغط الحاصل على بايدن اليوم داخل حزبهم الديمقراطي وفئات الشباب منه الذي باتت بعض اطرافه تشعر بغياب البعد الاخلاقي لسياساتهم الخارجية وتأثرها سلبا من المواقف المعتادة بما ينعكس على مصالحها ومكانتها الدولية والخوف من العزلة، وخوفهم من خسارة الانتخابات القادمة وفق استطلاعات الرأي الجارية .
هنالك اليوم فئات واسعة من الشباب باميركا وحول العالم الذين الآن اتيحت لهم فرصة معرفة سياسات وجرائم اسرائيل ومستوى الدعم الاميركي وحتى الأوروبي المقدم لها طيلة العقود الماضية . فإن الولايات المتحدة ومعها الغرب هي نفسها من أعاق تنفيذ مبدأ حل الدولتين الذي يتحدثون عنه اليوم دون وضوح خصائصه وحدوده بما يشابه ما تحدث عنه ترامب في صفقة القرن ، وفي وقت أصبح هذا الحل أصلاً شكلاً من اليوتوبيا نتيجة تطور الظروف القائمة على الأرض بفعل سرطان الأستيطان المتمدد والضم ، ونتيجة لعدم وجود شريك إسرائيلي مؤمن حقيقة بذلك ولأنه ايضا وبتقديري فإن الولايات المتحدة غير جاهزة للضغط فعليا على دولة الاحتلال للقبول بهذا الحل الأممي . ولو كانت تريد ذلك لنفذته منذ عقود بدل ادخالنا واضاعتنا في ركام سراب مشاريعها والتي للأسف قد تم التعاطي معها في حدودٍ ما، مما أدى إلى ترسيخ الأحتلال ، وتحديدا بعد اتفاق اوسلو الذي يتحدثون باسرائيل عن انتهائه ، رغم أن فترته الانتقالية قد انتهت بعد "٥" سنوات من توقيعه أصلا .
كما وقد كان ذلك النهوض من التضامن الدولي سبباً رئيسا في التغير الجاري ايضاً بالموقف الرسمي الأوروبي المتمثل على لسان عدد من المسوؤلين من الاتحاد الاوروبي باتجاه توجيه الانتقادات لإسرائيل وحديثهم الآن عن ان الحل السياسي هو الضامن الوحيد لأمن إسرائيل ، وهو ما شكل اختلافا في مواقفهم عن الأيام الأولى من بداية العدوان الإسرائيلي بما يعكس تأثرهم بمواقف قوى شعوبهم .
وقد ساهم كل ذلك في وضع بايدن تحت ضغوطات جادة أدت إلى ما صرح به يوم أمس الاول، حول حكومة نتنياهو بوصفها الاكثر تطرفا. والى وضوح تخوفه اليوم على مكانة الولايات المتحدة من جانب حسابات الربح والخسارة بالعلاقات الدولية واستمرار قدرتها على التأثير والهيمنة التي يريد وتريد لها الدولة العميقة هنالك كما ويريدها منافسه ترامب والمتمثلة بالاستمرار في تنفيذ رؤيتها الاستراتيجية خاصة في منطقتنا في مواجهة المتغيرات الدولية وصعود القوى الأخرى وتأثيراتها بالمنطقة ، ولذلك فعلى بايدن المضي باجراءات عملية واضحة حتى يتسم كلامه بنوع من المصداقية (فالمياه تُكذب الغطاس )، وهو أمر اشك بتحقيقه مع ضيق الفترة الزمنية له بالبيت الأبيض وقدرته كصهيوني خوض خلافات حادة مع اقطاب الحركة الصهيونية الاخرى التي تتحكم بمفاصل مهمة من الإدارة هنالك وامتلاك مجمعات الصناعات العسكرية والمالية ونفاذ تأثيرها حتى اليوم على اعضاء الكونغرس والشيوخ .
وحتى الاوساط السياسية والعسكرية بدولة الاحتلال رغم انها تتمتع بدعم سياسي اميركي بالمحافل الدولية وبجسر جوي وبحري مفتوح للاسلحة والقذائف ، اخذت تظهر عليها تضارب المواقف والخلاف.
وامام ذلك فأن تأثير سياسات نتنياهو نفسه بعلاقاته مع الصهيونية الدينية التي تقدم له الغطاء واسباب البقاء اليوم رغم اخطاء ما يسمى بالمعارضة ، فيما هو يقود حربا لاسباب شخصية ذاتية بجزء منها تتعلق باستمراره "ملك إسرائيل الكبرى" ، أصبحت تؤثر على مصالح الحركة الصهيونية العالمية وثانيا على مصالح الولايات المتحدة .
يضاف الى كل ذلك التطورات الجارية في باب المندب وفق قرار الحوثيين وتداعياتها ليس فقط على إسرائيل بل على حركة الملاحة التجارية الدولية وتكلفتها . وهو ما دعا الولايات المتحدة لمواجهة ذلك بتحالف دولي كتحالفاتها السابقة .
وهذا ما يتطلب منا ان نرى ايضا صورة الضغط الداخلي باسرائيل من جانب حراك اهالي اسراهم ومن المتعاطفين معهم من قطاعات المجتمع اليهودي خاصة بعد عمليات قتلهم هُم لأسراهم كما أُعلن عن ذلك ، كما وللتخبط الجاري بين الاحزاب السياسية الصهيونية المختلفة وما له علاقة بما جرى منذ بداية العام من تداعيات الانقلاب القضائي ، والذي اصبح يشكل مبررا لهم لطرح أسئلة حول جدوى تلك "الحرب" والفشل في تحقيق اهدافها ومخاطر توسعها وامتدادها ، بل واعلان عدم أهلية نتنياهو لاستمرار الحكم من جانب مفاصل من المعارضة ، الأمر الذي تؤيده الإدارة الأميركية التي تعمل على انفاذه بحجة إنقاذ إسرائيل والحفاظ عليها، والبحث عن محاولة تجاوز اي خلاف لتحقيق محصلة مصالح الطرفين والطريق التي ستخدم ذلك بما له علاقة ما بين التصعيد أو التراجع .
لذلك فقد كانت محصلة كل تلك المتغيرات الجارية ما شاهدناه قبل أيام في الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص التصويت على قرار يدعو إلى الوقف الفوري للنار ، فكانت أغلبية دول بالاتحاد الأوروبي قد صوتت الى جانب القرار والآخر القليل منها امتنع دون الرفض ، القرار الذي صوتت له اغلبية دول العالم ال ١٥٣ دون الاولايات المتحدة بالطبع.
طبعا ذلك كله يجري مع الألم الذي نعاني منه مع تزايد الخسائر المؤلمة لارواح ابناء شعبنا وتدمير غزة .
لكني اقول بأن انكسار المقاومة في غزة سينعكس سلبا علينا وسيعني انكسار لنا ، بعكس ما يعتقده البعض . وانتصارها بمعنى عدم تمكين الاحتلال من تحقيق أهدافه المعلنة والحقيقية، يعني انتصاراً نسبيا لشعبنا بما يسمح بإمكان أن يكون مسار الأفق السياسي الذي يتم الحديث عنه بواقع واطار افضل نسبياً عن ما تحاول الولايات المتحدة فرضه في "معادلة اليوم التالي" وتصريحاتها حول التجديد والتغير اللازم بالسلطة الذي يراد منه باطلا رغم ضروراته التي أشرت لها في بداية المقال .
اننا امام متغيرات جوهرية قادمة ، فبطريقة او باخرى نقترب من النهاية التي لا يريدها نتنياهو ، لهذا متوقع تصرفات دراماتيكية من طرفه يطيل بها الازمة . الا ان مقولة "اليوم التالي" التي يريدونها لنا ستعصف ايضا باسرائيل كما وبعواصم اخرى ، فنتنياهو بدأ حملته الانتخابية في ظل صراعات حزبية ومجتمعية ودولية ، واعتقد ان انفراط عقد حكومة الحرب لديهم بات قريبا . لذلك فان تحقيق اشكال من انتصار المقاومة او على الاقل عدم تمكين الاحتلال من تحقيق اهداف العدوان وإنزال الخسائر به يعتبر انتصارا للمقاومة .
هذا احتلال يتوجب أن ينتهي دون البحث في تيه الحلول المجزأة ، من خلال إطار مسار سياسي يتم التفاوض ليس على مبادئ حق تقرير المصير والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بل على كيفية تطبيقها بجدول زمني واضح يفضي إلى تجسيد حق تقرير المصير والاستقلال الوطني وتجسيد حريات شعبنا الديمقراطية في دولته ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا وسياسيا ، ليتمكن شعبنا صاحب ومنشِئ السلطات كافة وفق وثيقة اعلان الأستقلال والتراث الكفاحي لمنظمة التحرير من محاسبة السياسين كما والسياسات والعيش بأمن واستقرار وسلام