«رسائل شوق» في «بث مباشر»
سقا الله صباحات «البث المباشر». جيل سبعينيات القرن الماضي يذكرها كما يذكر ظهيرة «رسائل شوق» ذلك الودّ والمدد الذي ما انقطع أبدا بين ضفتي نهرنا المقدس. يذكر الأردنيون والفلسطينيون فرسان الكلمة الكبار رحم الله من رحلوا -ومنهم مع حفظ الألقاب: عصام العمري وجبر حجّات وكوثر النشاشيبي- وبارك في أعمار من بقوا ومنهم ما زال يواصل العطاء. جزاهم الله خيرا -النجوم الأساتذة: خلدون الكردي ومحمود أبو عبيد وسمراء عبد المجيد وصالح جبر وسحّوم المومني وأمل دهّاج وسلامة محاسنة ونداء النابلسي- المقام لا يتّسع لمقاماتهم الكبيرة وقاماتهم العالية.
ذكرت بعضهم قبل أيام بعد جولة طوّفتني عبر «ريموت كنترول» على عدد من القنوات الأردنية والعربية والدولية الناطقة بالعربية بعد جولة لا غنى عنها يوميا شملت عددا من القنوات الأمريكية على اختلاف توجهاتها أمريكيا يمينا ويسارا، لكنها فيما يخص حرب السابع من أكتوبر تكاد تكون متطابقة.
لم ولن أسمح لنفسي يوما بممارسة دور الناقد خارج الإطارات المهنية المناسبة وذلك جزء من طبيعة عملي، لكن ما لفت انتباهي بين كل ما رأيت شيء واحد غاب عن معظم تلك القنوات، وهي أصوات أولي الأمر، المعنيين مباشرة بالحرب هناك في الميدان لا الاستوديوهات وقد صار معظمها افتراضيا.
حتى أكثر القنوات عراقة في المصداقية وجاذبية في عرض المحتوى، ظل حبيس السرديات المتفق عليها قبل إنشائها وليس فقط قبل السابع من أكتوبر. لم تعد شروط المهنية والمصداقية تتوقف عند عرض المؤتمرات الصحفية الواردة من جميع الأطراف أو المواد الدعائية التي يتم إصدارها رسميا أو عبر وسطاء سموهم نشطاء وما هو إلا وكلاء وبعضهم اكتسبوا صفة على وزنها!
الأمانة تقتضي الاستماع لا بل والإنصات لأصوات المعنيين أولا وأخيرا بأسباب وتداعيات ما أدى إلى عمليتي «طوفان الأقصى» و»السيوف الحديدية».
قد يتحرج البعض -وقد ألتمس العذر له- بأن يؤدي الاستماع إلى الفلسطينيين والإسرائيليين المدنيين إلى الوقوع في المحظور أيا كان أو إثارة حفيظة البعض. لكنهم الأولى بالإنصات إليهم كونهم أهالي المخطوفين وأهالي المقصوفين أو المغدورين من ضحايا وشهداء، والله شاهد على الظالمين وعلى حقيقة ما في الصدور وما وراء ما يصدر عن الحناجر تصريحا عابرا أم مؤتمرا صحفيا أم مقابلة خاصة تفرد لها التغطيات الخاصة والمباشرة.
لا ينسى البعض أن بثنا وخاصة باللغة العبرية إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية كان متابعا غرب نهرنا المقدس، فضلا عن سفارات تتابع وترصد. كانت ردود الأفعال موضع فخر لشهادة الجميع بمصداقيتنا القائمة أصلا على الشفافية، بمعنى الصدق مع الذات قبل الصدق مع الآخر، أيا كان وإن كان خصما أو حتى عدوا.
من ينبري إلى بث مباشر أو حتى غير مباشر، شريطة أن يكون مقص الرقيب فيه «حنونا» بعيد النظر متسع الأفق، بث لرسائل شوق وأخرى حوار وتواصل إنساني بحيث لا تحظر فيها إلا الكلمة الجارحة أو الصورة المسيئة؟ متى يستمع الفلسطينيون والإسرائيليون إلى بعضهم بعضا، كمواطنين عاديين وكضحايا لحروب تفاجئ الكثير منهم بها وتعارضها نسب متزايدة منهم، من الجانبين.
أنّات المعذبين بآلام الفقد -وهي واحدة إنسانية وواحدة في عين رب الأرباب رب العالمين أجمعين- أنّاتهم ومعاناتهم قد تنير بصائر المتفاوضين على هدنة جديدة أو لعله وقف نهائي لا أقول دائما لإطلاق النار. إسعاف الحقيقة -أولى ضحايا الحروب تاريخيا وعالميا- إسعافها كفيل بإنهاء الحروب كلها، فالحق كما الحقيقة، غلّاب ولو بعد حين..