تستخدم الفيتو وترسل 45 ألف قذيفة.. أمريكا لإسرائيل: استغلوا وقت “المطحنة”
صادق الموقع الإخباري الأمريكي "بوليتيكو” في الأيام السابقة على تخصيص إدارة بايدن ثلاثة أسابيع أخرى للعملية الإسرائيلية في قطاع غزة في إطارها الحالي، أي أن واشنطن ستعطي إشارة لإسرائيل في نهاية السنة الحالية الميلادية بأنه قد حان الوقت لتغيير طبيعة قتالها في القطاع – سحب قواتها والتموضع قرب الحدود، ومن هناك تجري اقتحامات هجومية بحجم أقل ضد معاقل حماس المتبقية.
فرضت الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة الفيتو على مشروع قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، وفي الوقت نفسه، دفعت قدماً بصفقة لإرسال 45 ألف قذيفة مدفعية. ولكن الاعتماد الأمريكي يبقى أمراً محدوداً، وربما بدأ يضيق. كثير من الإسرائيليين يؤمنون بافتراضات خاطئة بشأن الفترة الزمنية التي ستسمح فيها واشنطن باستمرار العملية البرية الواسعة. للرئيس الأمريكي اعتبارات خاصة به، على رأسها تحفظ متزايد في أوساط الناخبين الديمقراطيين الشباب من دعم إسرائيل إزاء القتل والدمار الذي يلحقه هجوم إسرائيل في القطاع. ربما سيكون بالإمكان مد حدود صبر أمريكا لبضعة أسابيع أخرى، بعد 1 كانون الثاني. ولكن في هذه الأثناء، يبدو أن الأمر سيقتصر على ذلك.
الوقت الذي يضيق يحول هجوم الجيش الإسرائيلي الحالي إلى أكثر حسماً بخصوص مستقبل الحرب. تدير الفِرق الآن ثلاث معارك في الوقت نفسه، وتواجه جميعاً بمعارضة أشد من ذي قبل، لأن حماس تولي أهمية أكبر للدفاع عن ممتلكاتها المتبقية بعد أن هوجمت أو تم احتلال الكثير منها. طبقاً لخطة العمل التي وضعت آنفاً، يواصل الجيش الإسرائيلي تقدمه ببطء نسبي وحذر باستخدام نار كثيفة جداً. أسلوب القصف الذي سمي أيضاً "سرب الأفيال” أو "المطحنة” استهدف ضمان إلحاق أكبر قدر من الإضرار بمسلحي حماس مع تقليص الخسائر في جانبنا. ولكن ثمة توتر بين أهداف الحرب والوقت المخصصة لتحقيقها، إذا كان الأمريكيون يقفون ومعهم جهاز للوقف.
إذا ضغطت أمريكا وبحق على إسرائيل، وهو الأمر الذي يمكن ليحيى السنوار أن يفهمه من "بوليتيكو”، فإن ما يجب عليه أن يفعله هو الصمود لثلاثة أسابيع أخرى، والأمل بأن تفعل واشنطن ما تبقى. بسبب مطالبة أمريكا من إسرائيل زيادة المساعدات الإنسانية، فقد ازداد طول نفس حماس في القتال. لا شك أن جزءاً من الوقود الذي يتم إدخاله إلى غزة يصل إلى حماس ويتم استخدامه في الأنفاق. عملياً، حتى الآن تم إدخال كمية وقود أكثر مما تم إدخاله في فترة الهدنة التي أطلقت فيها حماس سراح المخطوفين.
يأمل الجيش بإنهاء نشاطات الجيش الأساسية في شمال قطاع غزة خلال أسبوع تقريباً، لكن ستتحول المعركة في خان يونس بعد ذلك إلى معركة أكثر حسماً. سيحاول الجيش حسم منظومة حماس المحصنة هناك، والمس بالسنوار أو كبار قادة حماس الآخرين، حيث الافتراض أنهم يختبئون في المدينة على الأقل حتى دخول الفرقة 98 إلى المنطقة. سيضطر السنوار لاتخاذ قرار ما إذا كان سيبقى ويحارب أم سيحاول الهرب نحو الجنوب، إلى رفح أو عبر الأنفاق إلى مصر (وهو السيناريو الذي يجلب معه سلسلة طويلة ومختلفة من التعقيدات المحتملة لكل الأطراف وعلى رأسها القاهرة).
هذه التطورات ستحول القتال في الأسابيع القادمة إلى أكثر تعقيداً. من الأفضل عدم الانجرار وراء الأجواء السائدة في الاستوديوهات، التي أسمع بعضها هتافات الانتصار مؤخراً. من الواضح أن الجيش الإسرائيلي يتفوق في المعارك، وأن الفرق تتصرف بشكل مثير للإعجاب وبمهنية في الظروف الشديدة، وأن مقاتلي الجيش النظامي والاحتياط (رجال الاحتياط جزء بارز من حيث الخسائر) يحاربون بشجاعة وبطولة. ولكن من الجدير عدم ربط أجزاء الصورة بصورة مصطنعة ثم نستنتج جراء ذلك صورة غير صحيحة بشأن الحسم.
أفضل مثال على ذلك يرتبط بالصور والأفلام التي نشرت الخميس والسبت من جباليا، حيث شوهد مئات الفلسطينيين الذين اعتقلهم الجيش الإسرائيلي، ومن بينهم رجال حماس الذين استسلموا، وإلى جانبهم الكثير من المواطنين العاديين الذين اختبأوا بمكان محمي وفرته لهم المنظمات الدولية. صورهم وهم بالملابس الداخلية، التي نشرت ليس عبر المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، اعترف الجيش بأثر رجعي بأنه حتى لو كانت هناك أي حاجة لخلع ملابسهم للتأكد من أنهم لا يحملون أحزمة ناسفة، فإن صورتهم مجردين من الملابس أمر زائد ومهين.
ليس هذا هو الخلل الوحيد في الصورة التي تسوّق فيها إسرائيل رسائلها للعالم؛ فقبل بضعة أسابيع، التقط جنود من الكتيبة 13 في لواء "غولاني” صورة داخل مبنى البرلمان الفلسطيني في وسط غزة، كانت صورة مهمة، لأنه حتى في هجوم حماس الإرهابي، في 7 أكتوبر، تضرر فصيل من الكتيبة في "ناحل عوز” وقتل عشرات من جنوده. ولكن تبين بعد ذلك، أن تفجير المبنى تم كمبادرة محلية ولم يحصل على مصادقة هيئة الأركان.
غزة فوق الأرض
آمال إسرائيل بزيادة إنجازاتها في الحرب تستند في جزء منها إلى وضع السكان الفلسطينيين. وأثارت إعجاب من هم في الاستوديوهات صور الفوضى في جنوب القطاع على خلفية فقدان سيطرة حماس على توزيع المساعدات الإنسانية. غضب السكان موجه في جزء منه إلى السلطة في القطاع، التي ورطتهم في هذه الضائقة الشديدة. حتى الآن، يبدو أن هناك فرقاً كبيراً بين غزة فوق الأرض وغزة تحت الأرض. كبار قادة حماس يعيشون بأمان نسبي في الأنفاق، في الوقت الذي يدفع فيه الجمهور الفلسطيني كل يوم ثمن هجوم إسرائيل الدموي والهستيري.
لكن إسرائيل لا يمكنها وبحق السيطرة على قوة الأزمة. فحوصات الدم التي أجريت على بعض المخطوفين الذين أطلق سراحهم، عند عودتهم إلى البلاد، كشفت أن في دمائهم دلائل على جراثيم خطيرة، دخلت كما يبدو إلى مياه الشرب في القطاع. وإلى جانب نقص الغذاء والدواء واكتظاظ شديد في المستشفيات، هناك إشارات تحذير أولية حول تفشي أمراض خطيرة في القطاع.
هذه الظاهرة تؤدي إلى استنتاجين: الأول أن على إسرائيل تعيين منسق للمساعدات الإنسانية يعمل أمام الأمريكيين والمجتمع الدولي. لا يكفي ضابط بالزي العسكري مثل منسق أعمال الحكومة في "المناطق” [الضفة الغربية]، بل ثمة حاجة لتعيين شخص مدني يمكنه إدارة سياسته الخاصة به بدعم من "الكابنت” كما يفعل نيتسان ألون، رئيس هيئة الأسرى والمفقودين. الثاني، كما تحذر عائلات المخطوفين طوال الوقت، هو أنه لا يوجد لدى إسرائيل وقت لتضيعه.
حسب الجيش الإسرائيلي، بقي بحوزة حماس 138 مخطوفاً، من بينهم 8 مواطنين من تايلاند ومواطن من تنزانيا ومواطن من نيبال. في بعض الحالات يدور الحديث عن أشخاص تم اختطاف جثثهم في 7 أكتوبر. وفي حالات أخرى مات المخطوفون في الأسر بسبب ظروف قاسية أثناء احتجازهم. وفي حالات أخرى قتلوا بدم بارد على يد حماس. أول أمس، أعلنت حماس عن موت المخطوف ساهر باروخ، وهو من "كيبوتس بئيري”، وقالت إن الأمر حدث أثناء محاولة إسرائيلية لإنقاذه. اعترف الجيش بتنفيذه عملية قامت بها قوة خاصة هناك، أصيب فيها جنديان إصابة بالغة أثناء تبادل إطلاق النار مع حماس، ولكن الجيش يقول إن باروخ قتل ولم يصب بنار رجال الإنقاذ. ولم يتم انقاذ أحد في هذه العملية.
اثنان من المخطوفين الذين عادوا من الأسر، قدما شهادة في مقابلة مع "هآرتس” عن الخطر الذي شعروا به عندما أصابت قنابل سلاح الجو مكاناً قريباً من المكان الذي كانوا فيه. ليس للجيش الإسرائيلي صورة استخبارية كاملة عن المواقع التي تخفي فيها حماس المخطوفين، ولا شك أن استمرار القتال يعرض حياتهم للخطر.
وصية الابن
القتال في منطقة مأهولة بشكل مكتظ، الذي يكون جزء منه من مسافة قريبة، يجبي ثمناً باهظاً أيضاً في أوساط الجيش الإسرائيلي. في نهاية الأسبوع، نشر عن موت ثمانية جنود داخل القطاع، وعن وفاة جندي كان مصاباً في 7 أكتوبر. في أحد أحداث الخميس بمخيم جباليا، قتل جنديان من لواء النخبة في الاحتياط 551، هما الرقيب أول (احتياط) أيال مئير بركوفيتش (28 سنة) من القدس، والرقيب أول (احتياط) غال مئير آيزنكوت (25 سنة) من "هرتسليا”. بركوفيتش كان هو المسؤول عن الحظيرة، وزميله آيزنكوت كان ممرضاً في القوة. أظهر التحقيق الأولي الذي أجري في الميدان أن أحد قناصة حماس لاحظ القوة وفجر حقل ألغام قرب فتحة أحد الأنفاق ضد هذه القوة.
والد غال، الوزير السابق غادي آيزنكوت، الذي أبّن ابنه في الجنازة أول أمس، قال إن ابنه آمن بعدالة الحرب وكان حساساً لضائقة المخطوفين الذين سأل عن وضعهم في لقاءاته القصيرة الأخيرة أثناء القتال. رئيس الأركان السابق، قاد في "كابينت الحرب” خطاً لإجراء صفقة التبادل الأولى للمخطوفين قبل أسبوعين تقريباً. وكان لآيزنكوت خلال الحرب تأثير على تشكيل السياسة، لكن رافقت هذا الأمر أحياناً خلافات حول الحاجة إلى بذل الجهود الكبيرة في قضية المخطوفين وبخصوص طبيعة القتال لدى الجيش الإسرائيلي.
القسم العسكري في المقبرة القديمة في "هرتسليا” كان مليئاً في ظهيرة الجمعة بآلاف الأشخاص الذين حملوا أعلام إسرائيل. كان معظم المؤبنين من أبناء العائلة، وقد تحدثوا عن شاب جذاب ومؤهل استثمر وتميز في كل ما قام به، وكان بؤرة لدعم وحب أصدقائه. اعتبر نفسه في البيت الابن الصغير لوالديه ومصدر السعادة للعائلة. منذ وجدت إسرائيل نفسها في الأزمة الداخلية الشديدة التي تفاقمت حول محاولة إجازة قوانين الانقلاب النظامي، كان آيزنكوت الأب قلقاً جداً؛ فقد كان من الأوائل الذين لاحظوا الخطر الكبير بسبب الدمج بين الشرخ السياسي المتفاقم، وتدهور الخلافات إلى صفوف الجيش والواقع الإقليمي، حيث إن أعداء إسرائيل سيعتبرون ذلك ضعفاً وانقساماً. في آذار الماضي، بعد عملية العبوة التي وضعها "حزب الله” في مفترق مجدو، حذر علناً من إمكانية اندلاع حرب، وقال لأحد مرؤوسيه السابقين الذي يتولى الآن منصباً رفيعاً: "انتبه، هذا على وشك الانفجار في نوبتكم”.
بسبب مكانة الأب العامة، جرت الجنازة ببث حي في قنوات التلفاز. ولم يُر مشهد علني كهذا منذ سنوات كثيرة في إسرائيل. غادي آيزنكوت أبّن ابنه بصوت مختنق، حيث جمهور واسع شاركه في ذلك.