بعض الحقائق التي كشفتها الحرب على غزة

لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل ما هو أقسى من الحروب، ففيها تتجمع كل الشرور والآلام والاضرار التي يسببها الناس لبعضهم بعضا وتفوق في وقعها وآثارها ما ينجم عن الكوارث الطبيعية والجوائح. ومن المؤكد ان هذه الحرب التي تشنها دولة الاحتلال ضد شعبنا الفلسطيني في غزة، هي واحدة من أكثر الحروب فظاعة في التاريخ الحديث لكونها تستهدف المدنيين بشكل خاص ومقصود على الرغم من الشعارات والأهداف الزائفة التي يروّجها الاحتلال. فهي حرب تشمل جريمة الإبادة لأنها تستهدف المدنيين من دون تمييز بينهم وبين المقاتلين، وهي حرب تهجير تشتمل على جريمة تطهير عرقي، سواءً في سياق العمليات الحربية المنفّذة أو الأهداف المعلنة بتهجير الفلسطينيين إلى خارج وطنهم. وهي حرب تفرض فيها إسرائيل جريمة العقوبات الجماعية فتمنع الماء والغذاء والدواء والوقود عن مليوني فلسطيني تحت سمع العالم وبصره، هذا العالم المنافق والمتواطئ، أو العاجز والمتقاعس لا يحرك ساكنا وهو يرى استهداف المستشفيات واقتحامها، ويتابع إحصاء القتلى من أطفال ونساء وطواقم طبية وموظفي أمم متحدة دون أن يحرك ساكنا.


وعلى الرغم مما تظهره هذه الحرب من بشاعة من يدعون انهم بشر، وفظاعة ما يرتكبونه من جرائم، إلا أنها كانت كاشفة لجملة من الحقائق التي تتخفى وراء مساحيق التجميل واساليب الخداع والتضليل. هذا الكشف الصارخ لا يهمنا وحدنا كفلسطينيين مع اننا الضحية الرئيسية لها، بل هو يهم البشرية جمعاء وربما يؤسس لنظام عالمي جديد أكثر صدقا وإنسانية.


أبرز ما كشفته الحرب هو حقيقة إسرائيل التي نعرفها نحن جيدا، حقيقة الوحشية المنفلتة من كل عقال والمتحللة من كل الضوابط والقوانين. ولكن العالم بمن فيه كثير من اشقائنا العرب، ما زالوا مخدوعين بهذه الدولة التي نجحت إلى حد كبير في خداع العالم وتضليله وتقديم نفسها أنها دولة طبيعية، تتطلع إلى السلام وإقامة علاقات طبيعية مع دول العالم. فإسرائيل التي تسببت بنكبة الشعب الفلسطيني الكبرى من خلال عمليات الاقتلاع والتهجير والمجازر، هي نفسها التي تواصل هذه العمليات بحجة الحق في الدفاع عن النفس.

كثير من الغموض والإبهام يحيط بتفاصيل النكبة وبعض وقائعها التي احتاج الكشف عنها إلى أبحاث أكاديمية وشهادات ومرور فترة زمنية طويلة للإفراج عن بعض الوثائق. أما الفظائع هذه المرة فهي تُنقل في بث حي ومباشر للعالم أجمع. ومن يشك في الطابع الإجرامي الوحشي لهذه الدولة وممارساتها بالنسبة لواقعة ما، يمكنه التيقن من الحقيقة في وقائع أخرى كثيرة تفرض نفسها في كل ساعة.


ثمة شخص واحد في هذا العالم لا يريد ان يصدق ما يجري، إنه الرئيس جو بايدن الذي ما زال يصدق تلفيقات قطع الرؤوس وذبح الأطفال ومسؤولية الفلسطينيين عن قصف مستشفى المعمدان. هذا الرئيس الذي يبدو متمالكا لقواه العقلية، اكتشف، أو قيل له فصدّق، أن تحت مستشفى الشفاء توجد مقرات لقيادة المقاومة واسلحة، فعلق على الفور: إنها جريمة حرب!


لا تقتصر وحشية إسرائيل على الحكومة ودوائرها الرسمية، بل يمتد الأمر إلى مختلف أطياف الخريطة السياسية، التي بات ممثلوها ينطقون بصوت واحد ويرددون أكاذيب المؤسسة الرسمية. والمجتمع الإسرائيلي تكشّف عن بيئة مشبعة بالعنصرية لا ترى أن حياة الآخر غير اليهودي مكافئة لحياة اليهودي، فمن أجل راحة هذا الأخير ورفاهيته وسعادته يمكن مواصلة احتلال الفلسطيني وحرمانه من أبسط حقوقه الإنسانية والوطنية. بل حرمانه من حياته إذا لزم الأمر. الصورة الناعمة والحضارية والديمقراطية التي تروّجها إسرائيل عن نفسها، والتي خدعت بعض الفلسطينيين وكثيرا من العرب إلى درجة الانبهار بهذه المعجزة الشرق أوسطية، التي يبدو فيها الإسرائيليون لطفاء يهتمون بالبيئة والثقافة والفنون والحريات والحقوق المدنية. لكن الحرب كشفت زيف هذه الادعاءات وأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع عسكري يقدس الحرب ولا يقيم اي وزن للقوانين الدولية ولا للقيم الإنسانية.


كشفت هذه الحرب وعبر أكثر الصور وضوحا مدى ظلم وبشاعة النظام الدولي القائم على ازدواجية المعايير، والذي تتحكم فيه الولايات المتحدة ومراكز الغرب التي ما زال قادتها ومسؤولوها يحنون إلى ماضيهم الاستعماري والعنصري حيث يجري تكييف القوانين والأحكام بناء على جنسية الضحايا ولونهم أو دينهم وعرقهم. فحقوق الإنسان، بل وحتى حق الشعوب في مقاومة محتليها هي مبادئ مقدسة بالنسبة لأوكرانيا ولكنها لا تعني شيئا بالنسبة للفلسطينيين.

صحيح أن ثمة أصوات حرة ومبدئية كثيرة ومؤثرة انطلقت في الغرب من خلال المظاهرات والاحتجاجات العارمة وغير المسبوقة، ولكن دوائر القرار ما زالت خاضعة لأولئك العنصريين الجاهزين سلفا لتصديق كل الأكاذيب الإسرائيلية. وهذه الدوائر تتحكم ايضا في وسائل الإعلام بحيث أن كبريات الصحف والمحطات التلفزيونية والمنابر العالمية تبنت الروايات الإسرائيلية من دون تحقق، في مخالفة صارخة ومشينة لأبسط المبادئ المهنية التي يتعلمها طلاب السنة الأولى للصحافة. هذا النظام الدولي الظالم بدأت أركانه في الاهتزاز منذ سنوات مع صعود الصين والحرب التي يشنها الناتو ضد روسيا، لكنه تكشف الآن بأبشع تجلياته مع هذه الحرب الظالمة التي يشنها حلف شمال الأطلسي على غزة.


كشفت الحرب كذلك عن ضعف النظام العربي وتفككه. فهذه الأمة التي تعد نحو 400 مليون إنسان ولديها اقتصادات صاعدة وموارد هائلة، بدت عاجزة عن إدخال المساعدات واللوازم الطبية لغزة، وتأخرت أكثر من 35 يوما في عقد قمتها لتخرج ببيان لا يسمن ولا يغني من جوع، ولتؤكد غياب وزنها وتأثيرها في السياسات الدولية، حتى تلك التي تخصها وتمس مستقبل شعوبها.


أخيرا كشفت الحرب هشاشة وضعنا الفلسطيني الداخلي وضعفه، وعجزنا عن اعتماد سياسات موحدة في مواجهة المخاطر التي تهدد حقوقنا وتهدد مصيرنا باسره. والمؤسف أن إسرائيل التي تعصف بها الخلافات الحادة والعميقة منذ سنوات اتحدت خلال الحرب، بينما لم نتحد نحن الذين نواجه مخاطر وجودية أكبر بكثير من تلك التي تواجهها دولة الاحتلال والفصل العنصري.