نتانياهو احتراماً لك، حان الوقت لكي تتنحّى
أصبحتأيام بنيامين نتانياهو رئيساً لوزراء إسرائيل معدودة. فإمّا أن يتقبّل المسؤولية عن الإخفاقات السياسية والاستخباراتية والعملياتية التي كانت واضحة في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، عندما "ارتكبت" حماس ماسماها الكاتب "مذبحة" راح ضحيّتها أكثر من 1,400 إسرائيلي، أو سيُجبر على التنحّي من قِبَل لجنة التحقيق التي ستعقب الحرب. وعليه أن يغادر الآن، ما دام هناك قدر صغير من الاحترام.
لقد خدم نتانياهو لفترة أطول من أيّ زعيم إسرائيلي آخر، الأمر الذي يعكس مهاراته السياسية الذكية والصورة التي أوجدها لنفسه باعتباره سيّد "الأمن". لكنّ حماس فجّرت هذه الصورة في هجوم من شأنه أن يمزّق روح إسرائيل لسنوات عديدة مقبلة.
لقد كان سجلّ نتانياهو مختلطاً بالتأكيد. ازدهر قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل على مدى العقود الأخيرة، لكن بفضل الجيش الإسرائيلي إلى حدّ كبير باعتباره الحاضنة، وليس بفضله. وتوسّعت العلاقات مع بعض الدول العربية بموجب اتفاقيات أبراهام، لكن لم يكن لذلك أيّ علاقة تذكر بفطنته الدبلوماسية. فهو فضّل توسيع المستوطنات في الأراضي المحتلّة على حساب خطر إفساد احتمالات السلام مع الفلسطينيين.
لقد ساعد تحويل الأموال إلى المستوطنات ومؤسّسات المجتمع الشديد التطرّف نتانياهو على تعزيز قاعدته السياسية وإعادة انتخابه. لكنّه جاء أيضاً على حساب المؤسّسات العامة في إسرائيل، بما في ذلك قطاع التعليم. وذكر تقرير صدر عام 2021 أنّ 50% من الأطفال الإسرائيليين يتلقّون "تعليماً من نمط العالم الثالث". وعلى مقياس "جيني Gini"، الذي يقيس درجة المساواة في الدولة على أساس توزيع الدخل ويعطي علامة بين 0 و100، فإنّ علامة إسرائيل هي 52.2 في عام 2019، وهو ما يضعها في الطرف الأدنى من المقياس العالمي، بين موريشيوس والسنغال.
خلافات نتانياهو مع أوباما وكلينتون وبوش
خلال فترتَي ولاية باراك أوباما في البيت الأبيض، عرّض نتانياهو العلاقة الاستراتيجية الأكثر أهمية لإسرائيل للخطر، وكاد أن يدفع العلاقات الأميركية الإسرائيلية إلى الخروج عن مسارها. وركّز بكثافة على التهديد المتمثّل في حصول إيران على القدرة على إنتاج أسلحة نووية. وقاده ذلك إلى مواجهة مريرة مع إدارة أوباما في الفترة التي سبقت الاتفاق النووي مع إيران، قبل إقرار خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. فخلال هذه الفترة، هدّد نتانياهو بقصف إيران، وأدلى بتعليقات مسيئة إلى أوباما وكبار مساعديه، وأعدّ، من خلف ظهر الرئيس، لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونغرس.
قبل فترة طويلة من خطة العمل الشاملة المشتركة، اعتاد نتانياهو إلقاء المحاضرات على الرؤساء الأميركيين. وقد فعل ذلك علناً أمام أوباما في عام 2011، بحضور صحافيين في المكتب البيضاوي. كما ألقى محاضرة على بيل كلينتون على نحو أكثر خصوصية في عام 1996، وهو ما أزعج الأخير فردّ بألفاظ مسيئة.
في الواقع، بدأت علاقات نتانياهو المتوتّرة مع الولايات المتحدة قبل فترة طويلة من إدارة أوباما. التقيت به للمرّة الأولى في عام 1989، عندما كان نائباً لوزير الخارجية الإسرائيلي وكنت نائب مساعد وزير الخارجية، وزرت إسرائيل ضمن جزء من فريق السلام التابع لوزير الخارجية جيمس بيكر. وصلنا إلى القدس في منتصف شهر أيار، في الوقت الذي طرح فيه رئيس الوزراء إسحاق شامير اقتراح سلام من أربعة محاور.
خلال مأدبة غداء في مقرّ إقامة رئيس الوزراء، كنت جالساً بجانب نتانياهو، وتحدّثنا لفترة من الوقت. ولدهشتي، أوضح نتانياهو أنّه غير راضٍ عن سياسة رئيس وزرائه، فكان الموقف حرجاً: كانت الإدارة الأميركية أكثر دعماً لخطة السلام الإسرائيلية من أحد كبار مسؤوليها.
بعد فترة استدعاني مساعد بيكر إلى مكتب الوزير الذي كان يلوّح غاضباً ببيان صحافي يحمل عنواناً صادماً: "نتانياهو: الولايات المتحدة مبنيّة على الأكاذيب والافتراءات". حاولت طمأنة بيكر بأنّ هذا لا يمكن أن يكون دقيقاً. كان الاقتباس غير صحيح، لكن ليس إلى حدّ ما. فقد انتقد نتانياهو الإدارة بقوله إنّ "سياسة الولايات المتحدة مبنية على الأكاذيب والافتراءات". ومنذ ذلك اليوم حتى نهاية إدارة بوش، كان نتانياهو شخصاً غير مرغوب فيه في وزارة الخارجية.
مع السلام.. والمستوطنات!
بعد سنوات، عملت سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل وكان نتانياهو وزيراً للمالية في حكومة رئيس الوزراء أرييل شارون. كان نتانياهو على استعداد لاتخاذ قرارات صعبة حثّه عليها صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة لتقويم الاقتصاد الإسرائيلي. وبإلحاح قويّ منّي، عرضت الحكومة الأميركية عدداً من الحوافز كنوع من شبكة الأمان لشدّ الحزام الذي فرضه نتانياهو.
خلال هذه الفترة، كنت ألتقي نتانياهو بشكل منتظم لمناقشة الأمور الاقتصادية والسياسية، وخاصة قرار شارون في عام 2003 بفكّ الارتباط والانسحاب من غزّة. كان موقف نتانياهو من فكّ الارتباط معبّراً. فهو صوّت له لكنّه استقال قبل أيام قليلة من الانسحاب الفعليّ.
لقد علّمتني هذه التجربة وغيرها الكثير عن الرجل، وكنت كتبت قبل سنوات في مذكّرة غير رسمية إلى وزير الخارجية وارن كريستوفر: نتانياهو رجل يتمتّع بذكاء كبير، لكن ليس لديه "سياسة تحديد المواقع" لمعرفة كيفية الوصول إلى حيث يريد أن يذهب. كان بإمكانه التعبير عن أفكار كبيرة، لكنّه كان يجد صعوبة في ترجمتها إلى أفعال.
لقد كان تناقض نتانياهو تجاه مسألة السلام وقضية الأراضي المحتلّة سبباً في إحباط السياسة الإسرائيلية لعقود من الزمن. فمن ناحية، أشار في خطابه في بار إيلان عام 2009 إلى استعداده، مع بعض التحفّظات المهمّة، للسعي إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، كان دعمه الثابت والمتواصل للمستوطنات في الأراضي المحتلّة، وإهمال حكومته النشط للعنف الذي يمارسه المستوطنون ضدّ الفلسطينيين، وسياسته الرامية إلى إضعاف السلطة الفلسطينية، سبباً في تفاقم الوضع على الأرض مع تعزيز قبضة إسرائيل على الأراضي التي احتلّتها.
جعلت كلّ هذه الأمور من نتانياهو معضلة سياسية وشخصية. جعل الأمن أولويّته، لكنّه قوّض شراكة إسرائيل الاستراتيجية الحيوية مع واشنطن. إنّه أكثر ذكاء سياسياً من أيّ شخص آخر في اسرائيل، لكنّه دخل في شراكة مع الشخصيات اليمينية والأرثوذكسية الأكثر تطرّفاً في الطيف السياسي. وقد عارضه قادته العسكريون بشأن إيران وأثاروا تساؤلات حول مقاربته للقضية الفلسطينية. وأدّت تصرّفاته الشخصية الطائشة المزعومة إلى توجيه اتّهامات متعدّدة له بالفساد. في العام الماضي، قسّم نتانياهو اسرائيل بخطّة إصلاح قضائي مثيرة للجدل، محاولاً تجنّب الملاحقة القضائية.
ساهمت هذه الانحرافات في الفشل المنهجي الذي مُنيت به الحكومة الإسرائيلية قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ولكي نكون واضحين: حماس وحدها هي المسؤولة عن "المذبحة" التي ارتكبتها في "انتهاك لكلّ الضرورات الأخلاقية الإنسانية". لكنّ نتانياهو دبّر سياسة استرضاء الجماعة، معتقداً أنّها ستكون راضية بهدنة طويلة الأمد، بدلاً من الوفاء بميثاقها الأصلي، الذي يدعو إلى تدمير إسرائيل. وقد قادت هذه السياسة إسرائيل إلى أخطر حرب لها منذ عقود.
لا أفق سياسي مع نتانياهو
الحرب في غزّة ستنتهي في نهاية المطاف. ولكن عندما يحدث ذلك فلن يكون أمام الإسرائيليين والفلسطينيين أيّ أفق سياسي يتطلّعون إليه، أو عملية سلام يمكن إحياؤها، ولن يكون لديهم أمل كبير في مستقبل أفضل. وهذا أيضاً إرث السنوات الطويلة لسلطة نتانياهو.
لقد حاول نتانياهو التنصّل من المسؤولية بإلقاء اللوم على قادة المخابرات والجيش في الإخفاقات الأمنية التي أدّت إلى هجمات حماس. وكان ينبغي لردّ الفعل الغاضب أن يقنعه بأنّ الإسرائيليين لن يسمحوا له بالإفلات من هذا المأزق. ففي استطلاع نشره هذا الأسبوع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، أعربت أغلبية كبيرة من الإسرائيليين عن ثقة أكبر بقادة قوات الدفاع الإسرائيلية مقارنة بنتانياهو. ويدرك معظم "مواطنيه" أنّه وضع مصالحه الخاصة فوق مصالح الدولة و"مواطنيها"، وأنّه لتجنّب المقاضاة القانونية المحيطة باتّهاماته، عرّض أمّة بأكملها للخطر. فبعدما فقد هالته كحامي لإسرائيل، وبعد فشله حتى الآن في تحديد أهداف حرب إسرائيل في غزة بما يتجاوز المبالغة في تدمير حماس، يتشبّث نتانياهو الآن بالسلطة من أجل السلطة ذاتها.
لقد تجنّب نتانياهو المساءلة في الماضي، بما في ذلك في أعقاب كارثة حريق جبل الكرمل عام 2010 التي أودت بحياة 44 إسرائيلياً أو حادث التدافع عام 2021 خلال رحلة حجّ أسفر عن مقتل 45 شخصاً. وهو يحاول تجنّب ذلك الآن. لكن حان الوقت لأن يتحمّل المسؤولية والمساءلة. حان الوقت لكي يتنحّى.
*دانيالكيرتز: كان سفير الولايات المتحدة لدى مصر من 1997 إلى 2001، ولدى إسرائيل من 2001 إلى 2005، والمبعوث الخاص للرئيس باراك أوباما إلى منطقة الشرق الأوسط عام 2008.
* ترجمت الزميلة إيمان شمص النصّ من مجلة "فورين بوليسي"، عدد 2 تشرين الثاني 2023.