هل دفن القانون الدولي تحت أنقاض غزة؟
لم تكنِ الحروبُ أبداً في يوم من الأيام إنسانية؛ لذلك قرَّر العالم بعد الحربِ العالمية الثانية أن يكونَ متحضراً، فجاء ميثاقُ الأمم المتحدة ليؤكد حرصَه على إنقاذ الأجيال القادمة من ويلاتِ الحرب وفظائعها.
لكنه كرَّر خطأ عصبة الأمم، فأعطى خمسة أعضاء حق النقض، ليقوض بذلك إرادة الشعوب، وليصبح رهينة بيد الأقوياء، ولتصبح العدالة نسبية، ومتغيرة. لم يدقق الميثاقُ في أعراف وقوانين أوروبية الأصل، بل جعلها قانوناً للبشرية جمعاء، وهي تتراكم منذ زمن الفقيه الإسباني فرنسيسكو فيتوريا في القرن الخامس عشر، مشرعن حق الاعتداء على الغير، ومصادرة أملاكهم، من خلال تقسيم العالم إلى شعوب متحضرة (أوروبية) وغير متحضرة، فاتحاً الباب أمام مبدأ أرض بلا سكان؛ فالدول الأوروبية الاستعمارية صاحبة مصطلح اكتشاف الشعوب طبقت قوانين التحضر هذه؛ بأنه يحق لها إذا ما قاومها سكان الأرض أن تقتلهم وتخضعهم بالقوة، ونهَجَ فقهاء أوروبيون هذا النهج، من أبرزهم الفقيه غروتيس الهولندي المسمى أبو قانون البحار الذي شرعن لبلاده أن تستولي على ما تريد، لكونها الأقوى بحرياً. هكذا تعززت هيمنة أوروبا، مما سمح لها بأن تعد الإمبراطورية العثمانية آنذاك غير متحضرة. لكن بعد الحربين العالميتين وظهور قوى أخرى تمثلت بالاتحاد السوفياتي، بدأ القانون الدولي يتغير في الشكل، إنما ليس في الجوهر؛ فقد طعن فقهاء السوفيات بمعظم الأعراف، والاتفاقيات المتشكلة في أوروبا، لأنها نتاج علاقات قوى غير متكافئة، وأنكروا إلزاميتها، وقبلوا أعرافاً أخرى ما دامت تحقق مصالحهم. الدول المستضعفة لم تستطع المجادلة، بل أُلزمت بهذا القانون إلزاماً.
هذا الواقع القانوني يفسر لنا بجلاء موقف الغرب في غزة، وانتهاك إسرائيل للقانون الدولي، لدرجة أن وزير الدفاع الإسرائيلي استرجع مفهوم التحضر القديم (الأوروبي)، فوصف أهل غزة بالحيوانات، وأعاد للأذهان شرعنة الفقيه الإسباني فيتوريا سحق غير المتحضرين، ولو استدعى الأمر قطع الماء والكهرباء، ومنع الغذاء، وقتل الأطفال. ورغم أن القانون الدولي الحالي تغير كثيراً بعد إدخاله تشريعات مهمة، مثل اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، ونصوص قانونية في ميثاق الأمم المتحدة، فإنه لم يزل بتركيبته (توازن القوى)، وتفسيراته النسبية، بعيداً عن مفهوم القانون الدولي الحق. فالتفسيرات القانونية هي قيد الطلب للتغطية على أي انتهاك صارخ، وكدليل، تذرع الغرب بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ فالولايات المتحدة والدول الأوروبية أفتت قانونياً بأن «حماس» اعتدت على إسرائيل، وأنها خرقت اتفاقيات جنيف، ومن حقها الدفاع عن نفسها. هذا يعطيها الحق بألا ترد فقط العدوان، بل توسعه لمنع تكراره. وهذا تفسير مزاجي يتجاهل تمييز القانون بين أمرين: شن الحرب وإدارتها؛ فالأول يتطلب إثبات الشرعية، والثاني يتطلب الالتزام بقوانين إدارتها. فالقول إن «حماس» معتدية لدخولها أراضي إسرائيل وقتلها مدنيين وأخذها رهائن خاضع للنقاش، ومحل جدال. فحركة «حماس» تُصنَّف في كثير من الدول، كما تبدَّى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حركة تحرُّر، ومعركتها داخل إسرائيل هي مقاومة للاحتلال، وبالتالي لم تجتَز حدوداً، وفق المادة 51 من الميثاق. لأنها لم تخرق حدوداً، بل قاومت احتلالاً، وهو مكرَّس في الميثاق تحت بند حق تقرير المصير. وحق تقرير المصير أصبح عرفياً باعتراف الدول به كممارسة، كما جاء في المادة 38 من ميثاق محكمة العدل الدولية. وتذرع إسرائيل بأن غزة كيان مستقل ولا تحتله إسرائيل، وبالتالي فإن «حماس» حركة إرهابية وليست حركة تحرر لا يستقيم مع الواقع، لأن الأدلة والقرائن تؤكد سيطرتها على منافذ غزة، والماء، والكهرباء، والسماء، والبحر؛ فغزة عملياً وقانونياً محتلَّة، وتصوير الغرب بأن إسرائيل تعرضت لعدوان فيه شيء من التلفيق الخبيث.
أما إدارة الحرب المتطلبة احترام القوانين والاتفاقيات، بالذات الإنساني منها، فلا شك أن «حماس» انتهكتها، إنما كثيراً من الاتهامات، مثل قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب، لم تقدم إسرائيل أدلَّة قاطعة عليها، لكن بالمقابل شاهد العالم على مدى شهر خرق إسرائيل لثلاثة مبادئ في إدارة الحرب: أولاً عدم التمييز بين المدنيين والمحاربين، وثانياً تجاهل معيار المماثلة القاضي بألا تتجاوز في عملياتها المطلوب والمبرّر عسكرياً، وثالثاً معيار الحيطة؛ بأن تبذل الوسع لتقليل الخسائر في المدنيين ولا تتعرض لمستشفيات ولا للبنية التحتية المدنية. كل هذه الأمور استباحتها إسرائيل، وتصريحات زعمائها السياسيين والعسكريين، ومشاهدات طائراتها على التلفزة، علاوةً على قطعها الكهرباء والماء ومنعها الوقود والغذاء يرقى لمستوى جريمة حرب كبرى يمكن وصفها بالإبادة. وهذا النص المتعلق بالإبادة تعريفه أن القتل يصل لمستوى «يهز الضمير البشري»، وهو ما تبدَّى عياناً في غزة.
لكن يبقى السؤال: كيف نحاسب منتهكي القانون الدولي؟!
لا توجد للأسف وسيلة قانونية، مع وجود حق النقض في مجلس الأمن الدولي، إلا محكمة الجنايات الدولية الخاضعة أيضاً لتوازنات القوى؛ فهذه المحكمة، رغم إعلان اختصاصها منذ عام 2011؛ بملاحقة انتهاكات حقوق الإنسان في غزة، لم يصدر عنها شيء إطلاقاً. وهذا يعود لسببين قانوني وسياسي. قانونياً رفض انضمام إسرائيل إليها، والتذرع بمبدأ complementary الذي يمنع المحكمة من النظر في أي اتهامات ما دامت تنظر بها محاكم إسرائيل. سياسياً، تهديد أميركا للمحكمة وموظفيها بإدراج المدعي العام على لائحة العقوبات، واعتماد المحكمة على المساعدات المالية الأوروبية، بهذا يُقفل هذا الباب القانوني أمام تحقيق العدالة، ويتضح تماماً أنه ما دام أن القانون الدولي لم تُعدَّل طبيعته التاريخية، وكذلك موازين القوى في مجلس الأمن الدولي، فلا أمل أبداً في وجود عالم أفضل، كما وعدنا به ميثاق الأمم المتحدة. هذا المطلب ضروري ولا محيص عنه لكيلا يُدفن القانون الدولي مع أجساد الضحايا الأبرياء تحت أنقاض غزة المكلومة.