حرب غزة السادسة


لمى فتحي صالح

حرب غزة السادسة، حرب حقيقية لا مصطلح مجازي، ولسوف نجد لها في التاريخ - إن جرؤ على توثيقها - أسماء عدة؛ فقد نجدها باسم حرب الإبادة الجماعية، وحرب المجازر، وحرب الحصار، حرب التجويع، وحرب الازدواجيات العالمية… والأولى من كل التسميات السابقة أن توثّق باسم الحرب العالمية الثالثة وهذا هو المتوقع والمنتظر!

أما سبب وجود هذه التسميات المتعددة والتي قد تكون مجتمعة كلها، هو أنّ حربا شرسة تدميرية شُنت على غزة في السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، وكان الجديد في هذه الحرب أمور عدة اجتمعت شكلت قاسما مشتركا وملامح مميزة لهذه الحرب عن غيرها يمكن إجمالها ب:

⁃وحشية غير مسبوقة في الاعتداء الجوي التدميري الذي أسفر بدوره عن عدد غير مسبوق أيضا في الوحدات السكنية المدمرة بعدد يزيد عن ٢٠٠.٠٠٠ وحدة سكنية، يترافق ضمنا بعدد شهداء تتسارع وتيرته يوميا حتى اقترب من ٩٠٠٠ شهيد نصفهم من الأطفال، والحرب لا تزال مستمرة.

⁃اعتماد نهج التصفية والإبادة الجماعية جنبا إلى السلاح التدميري تتلخص في قطع كل مقومات الحياة؛ الكهرباء والماء والوقود ومنع دخول المساعدات.

⁃اللجوء إلى حشد القوى العظمى عالميا لنيل تأييد وصفه نتنياهو بأنه غير مسبوق، ضمّ إلى جانبه أمريكا وفرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها، ما جعل قوى عالمية تكون مشاركة في الحرب!

⁃تشغيل قوى الإعلام العالمي لدعم سردية الكيان الصهيوني المعتمدة على تزوير الحقائق وقلبها وتغيير الصورة، ومحو منصات كاملة داعمة لغزة، وتوظيف مشاهير ورشوتهم لدعم الكيان.

⁃صمت عربي لم يسجّل له التاريخ مثيلا، افتقر إلى أبسط مقومات التنديد وخلا من أي رد فعل حقيقي ابتداء من الإبقاء على سفراء الاحتلال دون طرد مرورا بالصمت على المجاعة وعدم الضغط لإدخال المساعدات.

والخصائص السابقة المميزة كلها، جعلت منها حربا عالمية بامتياز استخدمت فيها أسلحة محرمة دوليا، وأدى اجتماع القوى العالمية مضافا إليها الصمت العربي المطبق إلى ظهور تمادٍ في رد فعل الكيان أسفر عن ظهور ازدواجيات ومفارقات لم تشهدها أية حرب قبل حرب غزة هذه؛ إذ أقدم الكيان على قمع وقتل وإنهاء أي مظهر قد يؤدي إلى إبقاء أية مظاهر حياة في القطاع أو وصول صوته إلى العالم بصور يمكن إجمالها ب:

⁃تتبع أي تجمع للغزيين في محاولتهم لحماية أنفسهم وقصفهم ما أدى إلى مجازر كانت الأولى في عددها ونوعيتها؛ إذ يصل عدد المجازر في أيام الحرب إلى ما يزيد عن خمسين مجزرة يوميا، بنوعية أسهل ما تسجل فيها أنها جرائم حرب، إذ للمرة الأولى تقصف مستشفى كانت ملجأ لآلاف النازحين، عدا عن قصفهم في أماكن طلب منهم الاحتلال اللجوء إليها ثم قضى عليهم بقصف صاروخي كما فعل في جنوب القطاع.

⁃استهداف كل قائم على رأس عمله في موقع مؤثر هدفَ تحطيم نفسيته وثنيه عن العمل؛ لوحظ ذلك في استهداف غير مسبوق لعائلات الأطباء إذ كانوا يفاجؤون باستشهاد عائلاتهم وهم يمارسون أداء واجبهم، والأمر نفسه في استهداف الصحفيين وعائلاتهم معها إذ استشهد ما يقرب من ٣٠ صحافيا، واستشهدت عائلة الصحفي وائل الدحدوح، والمصور الصحفي محمد الفرا وغيرهما، وكذلك استهداف طواقم الإسعاف وعائلاتهم.

⁃استهداف مصدر القوت الأساسي متمثلا بقصف المخابز الكبرى المسؤولة عن إمداد الخبر لآلاف الغزيين، تبعها قصف مجمعات تجارية كبرى تؤمن آلاف الغزيين بالمونة الأساسية اللازمة.

⁃إخراج المستشفيات عن الخدمة، ما يعني ضمنا الحكم بالإعدام على كل مريض، وكل جريح قادم إليها، وكل نازح ملتجئ إليها.

⁃محو عائلات كاملة من السجل المدني، يحمل معظم أهلها شهادات جامعية وعليا!

والممارسات السابقة كلها أدت إلى ظهور حالة هيجان شعوب عالمية تعد الأولى من نوعها بدءا من واشنطن مرورا بفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والوطن العربي كافة انتهاء بإفريقيا، وكل ذلك لم يشكل فارقا في إحداث أي تغيير إيجابي سواء بفتح المعابر أو إيقاف إطلاق النار بل أدى إلى ظهور إصرار صهيوني وغربي للقضاء على القطاع بموافقة عربية على مبدأ: ( السكوت علامة الرّضا ) ومن ثم التأكيد أنها حرب طويلة مدّعين أنها لن تنتهي إلا بانتصار الكيان والقضاء على حماس!
وفي بيان سبب ذلك كله فإن السبب المعلن هو رد الكيان على عملية هجوم قسامية في السابع من أكتوبر أسفرت عن قتل عدد غير مسبوق في صفوف الكيان، وكذلك أسر أكثر من ٢٠٠ شخص فيما لم يعتد عليه الكيان منذ اغتصابه للأرض ما شكل له تهديدا أمنيًا خطيرا إضافة إلى مشكلة ثقة بين الحكومة وشعبها المزعوم حتّم عليها ادعاء ضرورة استرجاع الأسرى سالمين!
وإن كان هذا الادعاء صحيحا فلماذا لم يبق الصراع صراعا ثنائيا؛ إسرائيل وفلسطين ؟؟ ولماذا أصبح عالميا لمواجهة طرف أحادي وحيد لقطاع صغير هو الأكثر اكتظاظا بالسكان ونصف بنيته المجتمعية من الأطفال؟؟
وهنا يظهر زيف ادعاء الحرب، وسببها المعلن فالسبب المخفي عند الكيان وأعوانه، هو غيره المخفي عند العرب، وكلاهما يصبان في مصلحة ثلاثية: الكيان - الغرب- العرب!
ولفهم ذلك، وقبل بيان مصلحة كل طرف من القضاء على القطاع وأهله فلا بد ابتداء من فهم بنية هذا القطاع وأهله.
إن نُظر إلى قطاع غزة أنه القطاع الصغير الأعلى اكتظاظا بالسكان مقارنة بحجمه فإن ذلك بحد ذاته لا يشكل تهديدا على الكيان، ولا حتى إنه الحاضن للمقاومة المسلحة، ولكن الفارق هو بنية ذلك القطاع وما تشكل عند المحتل من صورة له على مدار خمسة حروب سابقة جعلت بقاء هذا القطاع هو نقطة التهديد الوحيدة المنذرة بزوال الكيان إلى الأبد.
مجتمع غزّة مجتمع فتيّ نصف مكونه من الأطفال، وهذا المجتمع الفتي لم يكن ليشكل خطورة على إسرائيل بتعداده، لكنه أدرك الخطر بدراسته؛ إذ كان من المتوقع أن تخرج توالي الحروب على غزة جيلا مدمرا نفسيا خائفا منهزما ناقما على المقاومة رافضا لوجودها بينهم لكن الواقع أفرز خلاف ذلك؛ إذ كان يخرج من أنقاض كل حرب جيل قوي شجاع محبّ للمقاومة محبّ للحياة توّاق للحرية.
وهذا الجيل الناشئ الخارج من الحرب قويا كانت المقاومة جزءا لا يتجزأ من تفكيره وبنيته لا إراديا ولا اختياريا، وكان ذلك نتيجة طبيعية لأنه ابن الشهداء بمعنى أن لا عائلة في غزة تخلو من الشهداء، فصارت قضية الثأر والمقاومة ضمن جدول مستقبله - إن جاز التعبير -.

وما كان عجيبا في عقلية هذا الجيل الناشئ في غزة أن المقاومة ارتبطت عنده عقيدة وأخذا بالأسباب وليست قضية ثأر اعتباطية، فكان الجيل الأكثر تعلما ونيلا للشهادات العليا، بدليل استهداف الاحتلال لكل عائلة يحمل أبناؤها شهادات عليا، إضافة إلى وجود عدد كبير منهم حافظ للقرآن، وفي الوقت نفسه مبدع في الرياضيات متمتع في الفصاحة والجرأة والإقدام.

وكانت لحظة الرهان عند العدو إذ نجحت المقاومة بعملية هي الأولى ضده في الخسائر أن تكون ردة فعل الغزيين على الهجوم الهمجي عليهم من الكيان هو الانقلاب على المقاومة والتسابق للإيقاع بأفرادها وتسليمهم، ولكن هذا لم يكن فمع كل الحرب الوحشية السابق ذكر تفاصيلها إلا أن أيا من أهالي غزة أو أطفالها لم يتخلّ عن المقاومة بل كانوا يهتفون باسمها ويتردد على ألسنتهم: ( كلنا فدا المقاومة ) ( كلنا مشاريع شهداء).
ومما لوحظ عليهم أن مشاعر الانتقام لذويهم وشهدائهم ازدادت أضعافا عما كانت عليه مع هول ما رأوه في هذه الحرب، وهذه نتيجة حتمية متوقعة ومن هنا فقد صارت المقاومة عندهم وعيا ومستقبلا يخشاه الاحتلال.

ولعل ما كان قاضيا للكيان أن يرى العقيدة واللحمة الوطنية والتكاتف وكأن شيئا لم يكن؛ فلا سرقات ولا اعتداءات ولا همجية ولا سخط ولا ارتداد ايماني، وها هم ينشؤون سوقا وسط الركام، ويخبزون على الحطب، ويتقاسمون المسكن والمأكل، ويقيمون حفل زمام وسط الركام، ويتوعدون أن يزوجوا الجيل الجديد وهم أطفال لتكبر المقاومة وتتسع…

كلام كثير عن بنية الغزاويين قد لا يتسع المجال له هنا، ولكن بنية كهذه هي الوحيدة القادرة بكل مقوماتها أن تنهي وجود الكيان في وقت قصير، ولن يكون وجوده إلا مسألة وقت ويختفي. وهذا على وجه التعيين ما أدركه الكيان؛ أن وجوده سائر إلى زوال لذا أطلق النفير وجعلها حربا وجودية لكيانه يجب أن تنتهي لا بحماس كما ادعوا وأعلنوا بل بالقضاء على غزة جملة واحدة كل ما فيها بدءا من تدمير البنى التحتية مرورا بقتل سكانها وحصادهم انتهاء بإعادة احتلالها وضمها للكيان. ومن هذه النقطة صار قتل الأطفال مسموحا ومشروعا ليس لأنهم دروعا بشرية كما ادعوا بل لأنهم المحررون القادمون لفلسطين كلها.

ولأن الغرب فهموا ذلك، وأدركوا ما يترتب عليه من أمرين: أولهما عودة اليهود إلى أوروبا وأمريكا وهذا ليس مرحبا فيه على الإطلاق ضمن أجنداتهم. وثانيهما إن اختفى الكيان فقد خرجت المنطقة العربية عن سيطرة أوروبا وأمريكا كليا، وهذا ما لا يريدون له أن يحدث لذا هبوا جميعا وأعطوا مباركتهم للحرب على غزة ودعم الكيان بالمطلق.

أما العرب الصامتون فانتصار المقاومة سيضرب مصالحهم السياسية والاقتصادية؛ فما يجنونه من نفع وأرباح اقتصادية لن يجدوا لها تعويضا في حال انتهى الاحتلال بل سيجر ذلك وراءه إعادة ترتيب ملفات قوى سياسة هم بغنى عنها.

وبهذا كله بوركت الحرب العالمية على غزة؛ الكيان يضمن بقاءه، والغرب يضمن لا عودة اليهود إليه بل ويضمن معه بقاء سيطرته على المنطقة، والعرب يكسبون مصالحهم الاقتصادية وبقاءهم السياسي بوضعه الراهن!

والحرب لا تزال مستمرة شرسة، لكن الغزيين يولدون من الرماد، ومن رحم هذا العذاب، وما الحرب إلا صبر ساعة، وبشّر الصابرين.