مراقبون يستبعدون مواجهات عسكرية بين مصر وإسرائيل إلا في حالة واحدة


قبل أكثر من أربعة عقود بدأت مصر وإسرائيل مسيرة السلام بينهما في تحول درامي لم يكن متوقعاً بين بلدين خاضا أربع حروب في 25 عاماً، والآن مع مرور 44 عاماً على توقيع معاهدة السلام تبدو الأجواء متوترة أكثر من أي وقت مضى، على وقع الأوضاع في غزة التي صاحبها تحذير مصري من أي محاولة لدفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع نحو شبه جزيرة سيناء.

ومنذ هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تصعد مصر من نبرتها الرافضة لتهجير الفلسطينيين، وباتت لهجة الخطاب المصري قوية ضد إسرائيل سواء شعبياً أو رسمياً، ما أثار التساؤل في الأوساط الشعبية المصرية حول احتمالية تطور التصعيد لنشوب صدام مباشر بين القاهرة وتل أبيب.

وخلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز في القاهرة، في 18 أكتوبر الجاري، حذر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من تبديد "الاستثمار الكبير الذي قمنا به في عملية السلام من أجل فكرة غير قابلة للتنفيذ"، في إشارة إلى محاولة دفع الفلسطينيين للجوء إلى سيناء.

كما أشار السيسي خلال المؤتمر إلى أنه يمكن للمصريين الخروج للتظاهر ضد محاولة توطين الفلسطينيين على الأراضي المصرية، مضيفاً "مصر فيها 105 ملايين والرأي العام المصري والعربي يتأثر ببعضه بعضاً، وإذا استدعى الأمر أن أطلب من الشعب المصري الخروج للتعبير عن رفض هذه الفكرة، فسترون ملايين من المصريين يخرجون للتعبير عن رفض الفكرة ودعم الموقف المصري".

ما إن مرت دقائق على حديث السيسي، نشر إعلاميون ونواب نص تفويض للسيسي لـ"حماية أرض مصر من الأخطار والحرب مع إسرائيل وإنهاء مسيرة سلام استمرت عقوداً"، وتبع هذه اللهجة غير المسبوقة عقد جلسة طارئة لمجلس الشيوخ مساء اليوم نفسه الذي تحدث فيه الرئيس المصري، أكد فيه الأعضاء دعمهم الموقف الرسمي الرافض لتهجير الفلسطينيين نحو سيناء، وكانت النبرة أعلى في جلسة مجلس النواب في اليوم التالي، حين قال النائب والإعلامي مصطفى بكري إن "لا حل مع إسرائيل إلا الحرب.. فلتسقط كامب ديفيد"، فيما مزق النائب أحمد بلال معاهدة السلام بين القاهرة وتل أبيب.

بدت نبرة القاهرة حادة منذ الأيام الأولى للحرب، بعد دعوة أحد المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي سكان غزة من المدنيين، إلى التوجه إلى مصر إن أرادوا تجنب الضربات الجوية، وهو ما نفته لاحقاً تل أبيب والسفيرة الإسرائيلية في القاهرة، حيث كانت الرسالة الرسمية المصرية واضحة عبر مصادر سيادية تحدثت لوسائل إعلام محلية بأن "الحدود ليست مستباحة"، وتطور الأمر إلى خروج السيسي لتأكيد أن بلاده لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية، ولن تتهاون كذلك في حماية أمنها القومي.

وقال الرئيس المصري خلال افتتاح قمة "القاهرة للسلام"، السبت الماضي، إن "تصفية القضية الفلسطينية من دون حل عادل أمر لن يحدث، وفي كل الأحوال لن يحدث على حساب مصر أبداً"، وكرر الجملة مرتين.

السيسي وخلال افتتاح المعرض والملتقى الدولي السنوي للصناعة بالقاهرة، اليوم السبت، عاد للحديث عن ملاحظته قلق متزايد لدى المصريين، قائلاً إن "الدولة المصرية بفضل شعبها وجيشها ووعيها قادرة على أن تحمي بلدها تماماً. لا تقلقوا"

وأشار إلى إسقاط طائرتين مسيرتين في جنوب سيناء صباح أمس الجمعة، مؤكداً أن "مصر دولة ذات سيادة ويجب احترام سيادتها". وأضاف، "مصر دولة قوية جداً لا تمس.. وأقول للمصريين: أحب أن أطمنكم .. محدش يقدر ..محدش يقدر".

الشحن الجماهيري في مصر تجاه إسرائيل بدا واضحاً في التظاهرات الحاشدة التي خرجت الجمعة 20 أكتوبر الجاري، تنديداً بسياساتها ولتأكيد رفض مخططات تهجير الفلسطينيين، وتصاعد ذلك الغضب في أعقاب إصابة عسكريين مصريين إثر إصابة برج مراقبة على الحدود مع قطاع غزة بشظية دانة دبابة إسرائيلية، الأحد الماضي، في حادثة قالت إسرائيل إنها وقعت بالخطأ واعتذرت عنها، معلنة فتح تحقيق

كما تضاعف الترقب المصري لاحتمالات التصعيد بعد سقوط طائرة مسيرة على أحد المباني في مدينة طابا، المجاورة لإيلات الإسرائيلية، ما أسفر عن إصابة ستة أشخاص، وذلك في الساعات الأولى من أمس الجمعة، قبل الإعلان عن أنها قادمة من جنوب البحر الأحمر

فيما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاجاري "رصدنا في الساعات القليلة الماضية تهديداً جوياً في منطقة البحر الأحمر. وأرسلنا طائرات هليكوبتر قتالية للتعامل مع التهديد، ويجري الآن التحقيق في الأمر"، موضحاً في إفادة تلفزيونية "أن الضربة التي وقعت في مصر كانت نتيجة لهذا التهديد"

وبعد ساعات من واقعة طابا، سقط مقذوف قرب محطة كهرباء بمدينة نويبع الساحلية على خليج العقبة، دون أن يسفر عن إصابات

وتقع طابا في أقصى جنوب الحدود المصرية الإسرائيلية، واستردتها مصر عام 1989 بعد حكم هيئة تحكيم دولي بعد نزاع قضائي بين القاهرة وتل أبيب، وتبعد المدينة عن قطاع غزة نحو 350 كيلومتراً.

ونقلت قناة "القاهرة الإخبارية" المصرية شبة الرسمية عن مصدر مطلع، تعقيباً على انفجار طابا، قال فيه إنه بمجرد تحديد جهة إطلاق الصاروخ، فإن كل الخيارات متاحة للتعامل معها، ومصر تحتفظ لنفسها بحق الرد في التوقيت المناسب.

كما ذكرت قناة العربية أن هناك استنفاراً وتشديداً لتأمين الأجواء المصرية والحدود بشكل كامل ضد أي أخطار، ونقلت عن مصادر مصرية تأكيدها أن هناك تقييماً يجري "على أعلى المستويات في الدولة" لما جرى في طابا ونويبع ولجميع المناطق القريبة من قطاع غزة، كما وضعت خطط طوارئ للتعامل مع هذه الأحداث إذا تكررت مرة أخرى بشكل عاجل.

وأضافت المصادر أن مسؤولين مصريين أجروا اتصالات مع الأطراف المعنية كافة، لتأكيد أن القاهرة "لن تسمح بجرها إلى مستنقع التصعيد، ولن تسمح بتهديد أمنها لا من قريب ولا من بعيد"، كما تم توجيه رسائل تحذير خلال الساعات الماضية لأطراف مختلفة، مؤكدة أنها لن تسمح بتكرار مثل هذه الحوادث.

ويرى مستشار أكاديمية ناصر العسكرية اللواء عادل العمدة، أن هناك مبالغة في توقعات اندلاع حرب بين مصر وإسرائيل، مستبعداً ذلك السيناريو، لكنه تمسك بأن بلاده وقواتها المسلحة مستعدة دائماً لأي أمر طارئ.

وقال العمدة في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إن إسرائيل لن تقوى على فتح جبهات صراع جديدة سواء مع مصر أو غيرها، في ظل الأزمات التي يعانيها الشارع الإسرائيلي، والصعوبات العسكرية التي ينتظر أن تواجهها في حال التدخل البري في قطاع غزة، واحتمالات نشوب صراع عسكري مع "حزب الله" المدعوم من إيران، وكذلك قد يتطور الأمر في الضفة الغربية لاشتباكات مع الفلسطينيين.

وأوضح العمدة أن الحكومة الإسرائيلية تحاول مد أجل الحرب في قطاع غزة، لمعرفتها بحجم الغضب ضد نتنياهو ومطالب أهالي المحتجزين المستمرة بإقالته.

رسالة الاستعداد العسكري المصرية كانت واضحة في تفقد الرئيس عبدالفتاح السيسي، الأربعاء الماضي، فعاليات اصطفاف تفتيش حرب الفرقة الرابعة المدرعة بالجيش الثالث الميداني في محافظة السويس، وتأكيده على أن الأمن القومي والحفاظ عليه هو دور أصيل ورئيس للقوات المسلحة بهدف حماية الحدود، مضيفاً أنه "في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة من المهم عندما تمتلك القوة والقدرة أن تستخدمها بتعقل ورشد وحكمة فلا تطغى ولا يكون عندك أوهام بقوتك".

الرئيس المصري دعا أيضاً إلى عدم السماح لـ"الغضب والحماس أن يجعل المصريين يفكرون بشكل يتجاوزون فيه"، محذراً من "أن أوهام القوة قد تدفع إلى اتخاذ قرار أو إجراء غير مدروس بدعوى أنه كان ناتجاً من غضب أو حماسة زائدة عن اللازم".

واستمع السيسي لكلمات قائد الجيش الثالث الميداني اللواء أركان حرب شريف العريشي بأن "المشهد الضبابي الذي يكتنف منطقتنا هو ما يجعلنا أكثر حرصاً على تقوية أنفسنا بامتلاك أحدث منظومات القتال في العالم لنكون قادرين على مجابهة الأخطار والتحديات التي يمكن أن تؤثر في أمن مصر القومي".

مستشار أكاديمية ناصر العسكرية اعتبر أن مصر قادرة على حماية حدودها، مضيفاً أن التعديل في اتفاقية السلام مع إسرائيل، الذي اتفق عليه عام 2021، أعطى للقوات المصرية حرية إدخال مدرعات إلى آخر شبر في أراضيها، نافياً أن تكون المعاهدة تكبل التحرك العسكري في سيناء.

وفي عام 1979 وقع الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغين أول معاهدة سلام بين دولة عربية وإسرائيل، وذلك بعد عامين من التواصل الذي بدأ بزيارة مفاجئة للسادات إلى تل أبيب عام 1977 تبعها اتفاق "كامب ديفيد" الإطاري بوساطة أميركية في العام التالي، التي أثمرت لاحقاً المعاهدة التي وقعت في واشنطن.

ونصت المعاهدة على اعتراف القاهرة بوجود دولة إسرائيل، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من سيناء، مع تأكيد حق سفنها وشحناتها المرور بقناة السويس وخليج العقبة ومضيق تيران دون عوائق، لكن الاتفاقية قيدت حجم ونوع القوات المصرية في سيناء.

وقسمت الاتفاقية شبه جزيرة سيناء إلى ثلاث مناطق، الأولى تعرف بـ"المنطقة أ"، تبدأ من قناة السويس، وحتى أقل من ثلث مساحة سيناء، وفيها تلتزم مصر عدم زيادة التسليح عن فرقة مشاة ميكانيكية واحدة ومنشآتها العسكرية وتحصينات ميدانية، على أن تتكون الفرقة من ثلاثة ألوية مشاة ميكانيكي، لواء مدرع واحد، سبع كتائب مدفعية ميدان لا يزيد عدد القطع فيها على 126 قطعة، سبع كتائب مدفعية مضادة للطائرات تتضمن صواريخ فردية "أرض-جو" وحتى 126 مدفعاً مضاداً للطائرات عيار 37 مم فأكثر، كما لا يجوز لمصر أن تزيد عدد الدبابات في تلك المنطقة المفتوحة حتى 230 دبابة، ولا عدد ناقلات الأفراد المدرعة إلى ما فوق 480 مركبة من كل الأنواع، كما لا يزيد عدد القوات على 22 ألف فرد.

أما المنطقة "ب"، فتشمل منطقة شاسعة، تبدأ جنوباً من الحدود الشمالية لشرم الشيخ، وتتسع على شكل مثلث مقلوب لتصل إلى العريش، وفي تلك المنطقة وسط سيناء، وتضم أيضاً الممرات الاستراتيجية التي تتحكم في شبه الجزيرة، وتنص الاتفاقية أن تلتزم مصر حداً أقصى من التسليح يتمثل في أربع كتائب حدود مجهزة بأسلحة خفيفة وبمركبات على عجل، تعاون الشرطة المدنية في المحافظة على النظام في المنطقة، وتتكون الكتائب الأربع بحد أقصى من 4000 فرد.

أما المنطقة الثالثة، المعروفة بالمنطقة "ج"، فتضم الشريط الحدودي كله، إضافة لهضاب منطقة وسط سيناء، ومدينتي طابا وشرم الشيخ الاستراتيجيتين، ومدينة رفح المصرية التي تعد بوابة قطاع غزة، وتتمركز فيها الشرطة المدنية وقوات الأمم المتحدة فقط.

وعلى الجانب الإسرائيلي هناك المنطقة "د" وهي شريط بعمق محدود، يمتد بطول الحدود من خليج العقبة جنوباً حتى قطاع غزة شمالاً، وفيها تتمركز قوة إسرائيلية محدودة، من أربع كتائب مشاة وأجهزتها العسكرية، والتحصينات وقوات المراقبة الخاصة بالأمم المتحدة.

وتم تعديل المعاهدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 بتوافق بين القاهرة وتل أبيب، لزيادة وجود وتسليح القوات المصرية في المنطقة "ج"، وذلك بعد سنوات من التنسيق لمحاربة الإرهاب في سيناء، سمحت فيه إسرائيل لمصر بتجاوز الأعداد المقررة في المعاهدة.

مساعد وزير الخارجية المصري السابق السفير رفعت الأنصاري قال، إنه لا صحة لما يتردد بين الحين والآخر حول وجود بنود عسكرية سرية لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، مؤكداً أن التعديلات الأخيرة تكفي لما ترغب القاهرة في إدخاله من معدات عسكرية في المنطقة المجاورة للحدود.

وبحسب الدبلوماسي الذي عمل سابقاً لسنوات بالسفارة المصرية في إسرائيل، فإن المعاهدة تعطي الحق لمصر في حال الضرورة القصوى والظروف القاهرة إدخال قوات عسكرية تفوق ما ينص عليه الملحق العسكري في المعاهدة بمجرد الإخطار دون انتظار موافقة الطرف الإسرائيلي.

وأوضح الأنصاري أن إسرائيل ليس من مصلحتها الدخول في مواجهة مع مصر، في الأقل مع الوضع الحالي، بخاصة أنها لا تستطيع فتح جبهة لن تتحمل عواقبها، مشيراً إلى أن قوة الجيش المصري ليست مثل سوريا أو "حزب الله" أو حركة "حماس"، وأضاف أن طرح فكرة التهجير القسري للفلسطينيين كان "بالونة اختبار" من جانب إسرائيل، ولو لم يكن هناك رد فعل قوى حاسم وحازم من مصر، لكانت تل أبيب تمادت في تنفيذ ذلك المخطط، موضحاً أن تلك الأفكار لا تعدو حتى الآن كونها مقترحات، وأن إسرائيل التقطت الرسالة المصرية القوية برفضها.

وحول الضربة لبرج مراقبة مصري التي اعتذرت عنها إسرائيل، رجح الأنصاري أن تكون بالفعل نتيجة خطأ، مشيراً إلى أن هناك خطأ مصرياً أيضاً وقع قبل أشهر بتسلل مجند من قوة حرس الحدود وقتل عدداً من الجنود الإسرائيليين، بالتالي فإن تلك الحوادث غير المتعمدة واردة الحدوث على حدود الدول.

وعلى رغم استبعاد الباحث في الشؤون الإسرائيلية ياسر طنطاوي سيناريو المواجهة العسكرية بين مصر وإسرائيل، فإنه يرى أن تنفيذ فكرة تهجير الفلسطينيين بالقوة هو السبب الوحيد الذي قد يشعل الحرب بين البلدين وينهي عقود السلام، مضيفاً أن تل أبيب تتابع من كثب الرسائل المصرية القوية الرافضة لتلك المخططات سواء على الصعد الرسمية أو الشعبية أو الإعلامية.

واتفق طنطاوي مع أن إسرائيل ليس من مصلحتها فتح جبهة صراع مع مصر، في ظل الأزمة الحالية التي تواجهها في قطاع غزة، والتي لا توجد ملامح واضحة لنهايتها، بخاصة مع وجود تداعيات كبيرة على الاقتصاد الذي يدفع واشنطن لدعم حكومة نتنياهو، وكذلك تراجع شعبية الحكومة في الرأي العام الإسرائيلي.

وخاضت مصر وإسرائيل أربع حروب أعوام 1948 و1956 و1967 و1973، لكنهما منذ عام 1979 في حالة سلام رسمياً، وإن كان يعتبره كثير من المراقبين "سلاماً فاتراً" على المستوى الشعبي، وكذلك كثيراً ما تنتقد القاهرة رسمياً سياسات تل أبيب تجاه الفلسطينيين.