أمين الجامعة العربية الأسبق يكتب: الابتسامة الغربية الفاتنة لم تعد تغري أحداً
فعلى المستوى العالمي، والجهود تجري الآن لتجديد النظام الدولي، بدا واضحاً أن المجتمع الغربي غير مستعد لتطوير مفاهيمه، التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لضياع مصداقية النظام متعدد الأطراف، خصوصاً فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين. وأعني بذلك سياسة ازدواج المعايير، فما يدافع عنه في الحالة الأوكرانية، يدافع عن عكسه في الحالة الإسرائيلية - الفلسطينية، وقد بدا هذا واضحاً في مداخلات معظم الدول الغربية في مؤتمر القاهرة، مما أثار استياء قطاعات كبيرة من الرأي العام العربي والإقليمي والعالمي.
لقد أدت مناقشات القاهرة إلى رفع عدد من علامات الاستفهام الاحتجاجية بشأن حقيقة عملية تجديد النظام الدولي، إذا كان الأسلوب الغربي لا يتغير أبداً. وأعتقد أن «الجنوب العالمي»، كما يسمونه، سيضع هذا في الاعتبار في صياغة موقفه في هذا الشأن.
نعم، يجب أن نعمل على ذلك، وأن نواجه بشجاعة هذا الوباء الخطير وازدواجية المعايير، وإلا كنا فيما يتعلق بتطوير النظام الدولي كمن يحرث في البحر.
وفي هذا الصدد نتساءل: على أي أساس أخلاقي رفضت الدول الغربية أن يصدر مجلس الأمن قراراً يتعلق بالمعونات الإنسانية للمدنيين في غزة، وهم يزيدون على مليونين من البشر؟ ثم على أي أساس يرفضون وقف إطلاق النار؟ ماذا ينتظرون؟
نحن في مصر نعرف الإجابة، فقد تأجل وقف إطلاق النار في أكتوبر 1973 حتى «ينعدل» الموقف العسكري الإسرائيلي المتراجع، واليوم هو يتأجل حتى يساعدوا إسرائيل في إعدادها للاجتياح العسكري لقطاع غزة. ثم ما هو حق الدفاع الشرعي بالضبط؟ وهل هناك دفاع شرعي لدولة قائمة بالاحتلال العسكري لأراضي ضد سكان الأراضي المحتلة... هل ضرْب المدنيين والعقاب الجماعي دفاع شرعي؟
هل إزالة القرى الفلسطينية في الضفة الغربية وطرد أهلها دفاع شرعي؟ هل ما يطالب به وزراء متطرفون في الحكومة الإسرائيلية الحالية من محو الوجود الفلسطيني دفاع شرعي؟ وهل حق الدفاع الشرعي مقصور على الجانب الإسرائيلي دون غيره؟ إنها حقاً حالة مؤسفة من حالات ازدواجية المعايير.
أما على المستوى الإقليمي، فواضح من مناقشات المؤتمر أن الدول العربية رغم استعدادها للسلام، وفقاً لما جرى إعداده من مبادرات واتفاقيات، فإنها ليست على استعداد للتسليم لإسرائيل بما يبدو أن الغرب يسلم لها به.
إننا على شفا مرحلة صدام خطيرة مع تلك المفاهيم التي تكشفت في مؤتمر القاهرة. وإذا كان هناك من لا يزال يعتقد أنه يستطيع الضغط على حكومة هنا أو سلطة هناك لصالح إسرائيل، فقد سمعوا جيداً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال المؤتمر، مواقف صامدة وحاسمة في هذا الشأن. وما قالوه لم يكن موجهاً إليهم في الغرب فقط، وإنما كان تأكيداً لشعوبهم القلقة بأن الأمور في أيدٍ أمينة، وأن الابتسامة الغربية التي طالما فتنت الكثير من العرب لم تعد تغري أحداً، وأن الوعود المعتادة لم تعد ذات مصداقية.
نعم، لم يعد هناك إلا مسار الجدية لإنقاذ العلاقات العربية - الغربية. وأدعو الجميع إلى أن يأخذوا في اعتبارهم أن الشعوب العربية في حالة إحباط وغضب كبيرين، لهذا السبب وغيره. أضيف هنا أن الإقليم لا يعيش فيه العرب وحدهم وأنهم ليسوا وحدهم الغاضبين.
كما أودّ أن أوجه الدعوة إلى أنصار السلام في إسرائيل نفسها، ليعبّروا بوضوح عن موقفهم إزاء آفاق السلام وعدالته. وعن معارضتهم لسياسات حكوماتهم المتطرفة إزاء سكان الأراضي المحتلة وإزاء حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة. إنني أتصور تحالفاً إقليمياً يشمل أنصار السلام في إسرائيل يغير الصورة ويرسل لأصحاب «ازدواجية المعايير» رسالة صارمة: كم هم مخطئون.
إن على ساسة إسرائيل أن يعلموا، بل أثق أنهم الآن يعرفون، أن القضية الفلسطينية لن تتطاير في الهواء أو تغرق في الماء أو تدفن في رمال الصحراء. إنها ستنفجر في وجوه الجميع، ما دام إنكار حقوق شعبها مستمراً، بل وجوده ذاته. وعليهم أن يعلموا أن تعريفهم للأمن تعريف قاصر، فلن يعطيهم ضرب المدنيين أمناً ولا الاحتلال ولا مصادرة الأراضي ولا قمع البشر.
الأمن الحقيقي هو الذي يقوم على «الاتزان»، أي التوازن والقبول المتبادل، وقد حدث هذا بالفعل في «كامب ديفيد»، وحقق أغراضه لأن أحداً لم يمكّن إسرائيل من التهرب من التزاماتها طبقاً له، بل إنه حدث أيضاً طبقاً لاتفاق أوسلو الانتقالي. إلَّا أن إسرائيل قزّمته ثم خرقته لأن «حُماتها» أمّنوا لها التغطية اللازمة لهذا التنصل، فكان ما كان، وهو ما تواجهه المنطقة، بل العالم منذ 7 أكتوبر.
ثم إن على إسرائيل والمسؤولين فيها أن يعلموا أن سياسة إفراغ الأراضي المحتلة من أصحابها، أو سياسة التهجير القسري كجزء من خطة إقامة الدولة اليهودية، ووَأْد الدولة الفلسطينية، أصبحت أمراً مفضوحاً ومرفوضاً، ومن الصعب، بل المستحيل أن يقبل بها الجانب العربي دولاً وشعوباً - أكرر وشعوباً.
والآن، ماذا بعد؟ ما العمل؟ العمل المسؤول الذي لا أدري إذا كان الغرب في مجمله يمكن أن يقبل به، وهو مكبل بفكر ازدواجية المعايير.
لقد حقق مؤتمر القاهرة في رأيي بعض النتائج المبدئية والإنسانية المهمة، مثل فتح المعابر وإدخال المعونات وعرض الإفراج عن بعض المدنيين المحتجزين... إلَّا أن ما حققه المؤتمر في المجال الاستراتيجي كثير. لقد فتح الباب لنقاش نقدي لحق الدفاع الشرعي وتعريفه وحدوده.
إن ما ذكره بعض الممثلين الأوروبيين في هذا الصدد خطير، ويمكن أن يؤثر سلباً في النظام الدولي، وهو ما يتطلب موقفاً عربياً مدروساً يواجه تلك المحاولات، وفي هذا أقترح أن ندعو المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشته بصفة عاجلة، خاصة أن الكونغرس الأميركي - طبقاً لما أوردته وكالات الأنباء - يدرس منح إسرائيل هذا الحق كمنحة أميركية إضافية، حين أدرك المستشارون القانونيون أن ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي لا تقر لإسرائيل حق الدفاع الشرعي في الحالة المعروضة التي هي في معظم جوانبها رد فعل لسياسات الدولة القائمة بالاحتلال ضد سكان الأراضي المحتلة التي تمثل خرقاً صريحاً لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في وقت الحرب.
وأخيراً وليس آخراً، لقد تحدث الجميع - بشكل أو آخر وبنية سليمة أو من دونها - عن «الأفق السياسي» وضرورة فتحه، وهو ما يجب علينا ألا نتركه من دون تفعيل عاجل، ولنطرق الحديد وهو ساخن. وفي هذا أطالب الدول العربية، سواء في إطار الجامعة العربية أو في إطار تجمع عربي فاعل، يشمل بالضرورة مصر والأردن والمملكة العربية السعودية مع غيرها من الدول العربية الراغبة في الانضمام، بطلب مناقشة هذا الأمر رسمياً في مجلس الأمن، من دون حاجة إلى اتخاذ قرارات عاجلة، إلا بدعوة من يهمه الأمر للمساعدة في فتح هذا الأفق السياسي نحو تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك قيام الدولة، وضمان الأمن للجميع.
* رئيس لجنة الخمسين ووزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام للجامعة العربية الأسبق