جانب من رحيق أوديسا اليونان




من الأكيد أنّ لليونانيين القدامى باع طويل في التأسيس للفلسفة كتفكير مُؤسس له و مضبوط، قابل للنقد و المراجعة من أجل التصحيح و التطوير.
و في خضم الفترة اليونانية أين بلغت الأفكار الفلسفية مبلغ الاحتدام و التجاذب، ظهر تيار فلسفي فكري رأى بأنّ الحقيقة لا توجد تائهة بين غياهب الطبيعة، و إنما هي قابعة في الذات الإنسانية، و ما على الإنسان إلاّ اكتشافها من أجل اتخاذها معيارا يقيس به كلّ الأشياء، فهذا ما جاء به بروثاغوراس عندما بحث في الفضيلة، العدالة و الحرية، و بنى تصوراته لهذه المباحث انطلاقا من حياته التي كان يعيشها من جاه و سلطة و قوة، مطلقا مبدأ: " الإنسان معيار كلّ الأشياء الأخرى، و ما الأحكام إلاّ تقارير تبدأ من الإنسان و تنتهي إليه" و مبررا لخطاب لغويّ لم يُعرف له مثيل في تلك الحقبة الزمنية من عمر أثنـا، و لا في حقب سبقته، و مؤسسا لعلم جديد سمي بعلم البيان.
و قد زادت هذه المبادئ ترسخا مع جورجياس، و ألينياس و أنتافون و غيرهم من الذين عرفوا باسم السوفسطائيين، الباحثين عن العدالة و المساواة بينهم و بين اليونانيين (من أب و أم أثينييْن) مستخدمين سحر لغتهم من أجل نشر أفكارهم و معتقداتهم التي بدت صحيحة، حتى ولو كانت مبنية على أسس و مراجع خاطئة، هشة تخدم مصالحهم المادية و الطبقية من سلطة و مال.
في هذا الوقت بالذات أين كان الفكر السوفسطائي في أوّج قوته الاقناعية، و الذي اكتسبها من صلابة و حنكة السوفسطائيين اللغوية، مفضلين الحس على العقل، و جاعلين من المادة مصدرا للحقيقة، و الإنسان ميزانا للمعارف كما قال جورجياس: "...أنا لا أعرف، و حتى إن عرفت، لا يمكن تعريف ما عرفت للناس..." ظهر فيلسوف آخر غير راض عما تنادي به السفسطائية، و معطيا للعقل نصيبه، و للتفكير قيمته، و جاعلا من السعادة غاية لا تدرك إلاّ بمجادلة الذات و الآخرين ... إنه سقراط، يونانيّ عابد زاهد، جادل السوفسطائيين في الفضيلة و الحرية و غيرهما، مؤسسا بذلك للمنهج التهكمي، و التوليدي للأفكار، أو ما يعرف اختصارا بـ"المنهج الجدلــي" أو كما يسمى باليونانية القديمة: "ألينخوس" و التي تعني مجادلة.
فهذا المنهج يقوم على ثلاث مراحل: أولها أن يدّعي سقراط الجهل أثناء محاورته لأحد السوفسطائيين، و ثانيها افحام الخصم بأسئلة بسيطة من أجل استدراجه إلى طرح حججه، و ثالثها يأتي رد سقراط على المحاور له بطريقة استنتاجية من أجل هزّ الأساسات (الأفكار الجزئية) تهميدا لهزّ المعتقد (الفكرة العامة) الواقف عليها.
و ما يمكن استخلاصه من هذا كله أنّ للسفسطائيين نصيب هام في الدفع بالفكر الإنساني ناحية اعطاء اللغة مكانة مميزة و هذا ما مهّد لفلسفة الخطاب في عصور تلت، كما أنّ سقراط أعتبر مدخلا بفكره للعديد من أنواع الفكر، كفلسفة الأخلاق و الفلسفة السياسية و غيرها، داعيا إلى البحث عن الحقيقة بالعقل كما قال ذات مرة: " ...لا يمكن أن تصدقوني إن قلت لكم أنّ أبرز صور التفوق الإنساني هي مساءلة الذات، و مساءلة الآخرين...".

في امتحان: 15/02/2012
السيّد: مـــزوار محمد سعيد