علي السنيد يكتب : احمد عويدي العبادي... يا ظلام السجن خيم خيم

إذا اقبل الليل، ولف المهاجع في ظلمته، وأوى شيخ السجناء احمد عويدي العبادي إلى غرفته، وأغلقت عليه الأبواب الحديدية، وداعب النوم الجفن السجين ، فتلك حكاية من حكايات الحرية، رددها الليل الحزين على مسمع الخائفين، وبوابة الشعب الحزين.
في الليلة الأولى حدث السجن العبادي عن قصص الذين تركوا فيه سنين العمر على مذبح الوطن، وفسرت له الحيطان بقايا أسمائهم التي نقشوها هناك للأبد، وكلمته الأقفال عن سجناء غرباء قلوبهم مآذن تدق بالحرية، وأسرت له الزوايا عن حكاية الدمعة الحرى التي سكبتها على موعد مع الشوق عين سجين متخف مضى، وترك في السجن حلمه، والدمعة المقتولة تطلع في كل يوم في حلق السجانين، فالسجن سجل وطني...
هناك كان ليث منفردا، وتوجان الفيصل، وعطا ابو الرشتة، وعلي العتوم، ومحمد أبو فارس، وعلي أبو السكر، واحمد الدقامسة، وأبو سياف، ومحمد المقدسي. وفي الزاوية البعيدة ما يزال يتردد صوت ناهض حتر، وعكرمة الغرايبة، واحمد الصعوب، وسالم جرادات، ومعاذ بريزات، وأيمن العتوم، وماجد المجالي، وكامل نصيرات، ومحمد مشرف الفقهاء، وضيف الله قبيلات، وعبدالرحيم السفاريني، وسعود الخلايلة.
وفي زاوية أخرى يطل خيال فهد الريماوي، وسعود القبيلات، ويوسف غيشان. في كل مكان قصة، وعلى كل حيط نقش وطني.
الأماكن لا تنسى، وهي تحدث عن ساكنيها، هل هي خزانة الحزن الوطني، ام سجل المعذبين؟؟؟
أما الساحة فما زالت تردد أسماء من عذبوا فوقها على خجل، وتعترف بصرخات زياد غزال، ومجاهد محمد طايع. وهناك تلك الشبابك سودتها قصص من "شبحوا" عليها . وكل بلاطة تحمل قصة معذب، عذبه عذاب شعبه، وعذبه من عذب شعبه، وعذبه نسيان شعبه لعذابه.
والسجن يحكي، ويحكي، وعين العويدي كلما حط عليها النوم جاءتها روح سجين سابق تداعب أحلامها، وتقرأ عليه السجل الوطني منذ أول الوطن، فالسجن سجل وطني، ارواح السجناء فيه حرة تحلق في سماء الوطن الابهى.
العذابات في السجن لا تموت.. لأنها صارت من الأملاك الوطنية، والسجان، والقفل، والكلبشات، وموعد الزيارة، ووقت التفتيش، والغرفة، والشاويش، والبربيش، ودمعة الأم، ، والابن، والأخ، والوالد، والزوجة، والاحتقار، والأمراض المعدية، والغرف التي تنظفها دموع المساجين، ووقت الغياب، وقطع الكهرباء، وهبوط الليل على جدران المعتقل، والنجمة التي لمعت من السماء، وتراءت من طاقة الباب الحديدي، وهمسها للسجين أن روحه حرة. "إن كل ثانية أخذت من عمر صاحب رأي هي أمانة في عنق الأردن".
كل شيء يحدث العويدي عن نفسه، وكل دمعة تدل احمد على مكانها، وكل صرخة تزور احمد عويدي ، وما تزال تحمل هم صاحبها، وتعلن أن عمر السجين لم يذهب هدرا، وانه في ذمة الشعب.
احمد الدقامسة يحط في كل مكان، وفي كل الإرجاء، وتحمل الأماكن عطره، والباقورة التي نقشها على جدار القلب ما زالت على الجدار، من بعيد يلوح مجلس ليث الذي قبع فيه وحيدا، بقي وحيدا، وجريدته التي قرأها ذات يوم ربيعي في الشمس أمام الزنزانة "ها" ما زالت تقرأ نفسها. حقا إن عمر السجناء لم يذهب هدرا.
حنت الجدران على أصحابها ، والأقفال والشبابيك تحمل أثار من كانوا بها يعدون أيامهم، يرسمون بالوقت، والهم، والحزن المستقبل المفقود، هكذا حدث السجن العويدي في لياليه المالحة.
وفي اليوم الثاني أغمض احمد عويدي عينيه على الجرح، وأوى إلى النوم متعبا، وهو الذي يحمل فوق عمره المتعب سنتين من السجن مضتا في عمر الوطن، من الأقفال، والأبواب الحديدية، والجدران، والنجمة التي لمعت من طاقة الباب الحديدي، وكل السنوات السجينة لسجناء مضوا تحيط بغرفته، وتحميه من أصوات النكران السياسي التي تكلم بها الغدر الخسيس مرة أخرى، ومضت الأيام تسجن احمد، واحمد يسجن السجن، وعبارته الشهيرة لا تكف عن ترديد نفسها " انتهت الزيارة... انتهت الزيارة".
وكل يوم يأتي محملا بالصمت، والعار من يسجن من؟؟؟، يترك كلمة جديدة في حكاية الحرية – احمد عويدي- القلب الذي قهروه حينما انتصرت القلوب، واحمد لحظة بلحظة يكتب القصة المقدسة لا دمعة فيها، وهي تذوب بشمسها البحار، في درب الحرية الذي تعبده الأجساد والأشلاء قدمت أول الحلم، وأول الحزن، وأغنية للوطن، وشاطئا لا يعود.
في معركة يربحها الجسد، حيث لا سيوف، ولا خناجر، والكلمات قتيلة، والشموع خافتة، في ساعة رهيبة تغتسل فيها المبادئ بماء العمر الهارب من سجن الجسد، ما زال احمد عويدي العبادي يحمل سيفا لكل معاركنا، ما زال يتمرد فينا لغة تودع اكبر آلامها وتنعتق. أما نحن فقد قتلنا بالصمت صوت الألم في كل اللغات على أن سجنه سجل وطني.... فهو الذي لن تضيع نضالاته، لن تغيبه السجون، ويظل يمضي على دروب الحرية، حكاية بقامة وطن.
وغدا يطلع احمد عويدي من كل الحارات، والأزقة، والدور، وبيوت الشعر، والأرياف والمحافظات، والجوع الشعبي ، والألم على كل الوجوه السمر الطيبة، وفي كل مشوار، وعلى كل لسان قصيدة، وفي كل عين دمعة، فأحمد ليس عابرا أو محطة غضب مؤقت، وإنما هو قضية شعب تهافت الفاسدون على خبزه، ودمه، واقتسموا على التوالي مأساة روحه المحطمة.
وأوى احمد إلى غرفته.
ويقولون أن أغنية الحرية تنطلق من غرفته عبر نوافذ السجن، ويسمعها كل السجناء، وان القمر يلقي عليه مسحة من النور، والضياء،
غنت معه الصحراء... يا ظلام السجن خيم خيم. ولذا نمت أزاهير الحرية على الطرقات. الكل يؤكد انه سمع الأغنية، وان زهرة في داخله نمت اثر ذلك.
ارجع يا ابا بشر أينما انتهى بك المشوار فقد اشتاقت لك وادي السير، ارجع فالطعنة لا يمكن أن تقتل وطنا مات كثيرا.
وإياك أن تتذكر القيود، ارمها عند بوابة السجن، فما الاستبداد بدائم، وقد أزهر الربيع العربي من نبع العيون.

علي السنيد
سجين سابق