أي معرض كتاب.. هذا!

 

أخبار البلد- 

نعم، لقد اجترحنا المعجزات، طوال قرن منصرم، لتصير حقيقة ماثلة للعيان أمام الشمس، وأمام العيون التي أغمضت كرها ومداجاة كي لا ترى الحق الفلسطيني المرفوع على أعمدة من ضوء، فتاهت عقول أصحاب القوة بسبب امتلاكهم للقوة فأعطوا الوعود لمن لا يستحق، وجعلوا للظلموت فضاء راعبا فوق الأرض الفلسطينية.

ولقد حلمنا طوال قرن، لنرى مدرسة يردد فيها صغار البيوت: موطني، موطني، في ظل علم يرفرف جذلا بألوانه الأربعة، وحلمنا طوال قرن من الدماء والمجازر، لنرى خروبة واحدة تهز أغصانها فرحة مثل الطيور لأن ما من دبابة تربض قربها، وحلمنا طوال قرن أدارته الأيدي السود، وحبرت أوراقه بالأذيات، أن نرى المعاني الكاملات التي جسدها الكتاب الذي قرأنا فيه التاريخ والجغرافية والعادات والتقاليد واللغات وسير الآباء والأجداد، وكيف صنعوا من الحجارة السود عمرانا آبدا، ومدنا عصية على الزوال، وأسوارا من المحبة تحيط بالبيوت، والمعابد، وقولات الحق، وتماشي الخطا الواثقات، وكيف وعوا مقولة الدنيا الخالدة: لا أبدية للظلموت، ولا قامات للظالمين، ومآل القوة الأخير.. إلى الهلاك.

نعم، لقد وحدتنا قراءة كتابنا الفلسطيني، وشدتنا إليه المعرفة السامية حين جالسنا الآباء والأجداد وهم يحفظون مواضع حجارة القدس في قلوبهم وبالتفاصيل، وموجات بحيرة طبريا ورفوف بطها البري فيحفظون المعنى في الصدور آهات من المسرة الآسرة، ويرقبون اندفاعة نهر الأردن المقدس من الجبل الشيخ ركضا يوميا مصحوبا بغناء أمهاتنا وجداتنا وقد جالسن ضفافه قرب أجمات القصب الطروب، ولعب أطفالنا بكثبان ملح بحر مدينة القمر/أريحا، وقد غدت طبقات تجول فيها علوم الجيولوجيا، والخصب الذي يلف حقول القمح، والجمال الذي يطير دهشة لمرأى عباد الشمس، والسمسم، والورد، وقد جالت روائح بيارات البرتقال والكريفوت حتى عمت كل شيء!

كتابنا الفلسطيني الذي علمنا أن الحياة مواقف عز، وصلابة إرادة، ويقينية تامة صريحة، هو الذي علمنا أن هذه البلاد الفلسطينية كانت هي لنا، وستظل قناطر وأقواس نصر جيلا بعد جيل لأن الحياة الفلسطينية قامت، ومنذ فجر التاريخ، على ثلاثية تجهر بالصدق والمعرفة، هي الحق، والخير، والجمال، ولا شيء في هذه الدنيا له نيافة ومكانة ومعنى إلا وكانت هذه الثلاثية رابخة فيه!

أجل، أنا أتحدث عن معرض الكتاب الفلسطيني في رام الله العزيزة، بوصفه حلما من أحلام آبائنا وأجدادنا يحققه الأبناء الآن، هؤلاء الآباء والأجداد الذين جعلوا من معاني الكتب وقولاتها وجمالها تطريزات بديعة زينت المعنى الفلسطيني بالعافية الوطنية على مر الأزمنة. معرض الكتاب، في رام الله، حلم بهيج يمشي على قدمين، وتلفه زهوة الفرح، ودندنات الأرواح التي اشتاقت إلى الموسيقى التي تقول للصباح مرحبا يا صباح، والتي تقول للمساء، عمت بالطمأنينة المشتهاة أيها المساء، إنه حلم الآباء والأجداد الذي يراه الأبناء والأحفاد عيانا وبين تضاعيفه.. التاريخ، والمكان، والثبات، والروح الفلسطينية كما لو أنها هي الكائنات التي تجول هنا وهناك مثل طيور فرغت لتوها من تدريب صغارها على الطيران داخل أقفاص الهواء.

إن هذا النشور المعرفي للآداب والفنون والفلسفة وسير الأماجد الذي سخروا حياتهم كلها اقتطاعا من أجل رفرفة العلم بألوانه الأربعة الزاهيات، لهو يعني نشور الروح الفلسطينية وهي بادية بالثقة التامة، والعزة التامة، والثبات الأتم، ولأن الحلم كبير بضفافه، فإن ما يطرب الوجدان، ويجعل القلب ضاجا بفرحه، هو هذه الوحدة التي عمل عليها معرض الكتاب الفلسطيني في رام الله، فالكتب التي طبعت في يافا، والناصرة، وغزة، وأريحا، والقدس، والخليل، وعموم الجليل الفلسطيني.. ها هي حاضرة، وموحدة، وموحدة لنا، في القول والمعنى، إنه حلم خصيب، والأكثر جمالا هو أن ترى الكتاب الفلسطيني المطبوع في آخر منافي الأرض حاضرا بعلو ما فيه من الحنين، وترسيمات الذاكرة، وترديد قولتنا: عائدون، حتى لتبدو هذه الكتب لهوات تنشد نشيدنا الخالد: بلادي، بلادي! والمفرح أيضا هو أن ترى ما أنتجته عقول أهل الفكر والإبداع في بلادنا العربية، وبلاد العالم الصديقة، كتبا تشع بأغلفتها الجميلة، وحضورها البهي، في معرض رام الله للكتاب.. كل هذا ما كان ليكون، في ظل ممارسة الموت والإماتة التي يتبناها عدونا النقيض، منذ قرن وأزيد، لولا وقيدة الضوء المشعة في القلب الفلسطيني، ولولا نورانية العقل الفلسطيني، ولولا إيمان الروح الفلسطينية المؤمنة يقينا بالحق، والخير، والجمال.

معرض الكتاب في رام الله، يقول بالوضوح الأكمل إنها الحياة الفلسطينية المحروسة بأسطورة العمران والنقوش والقراءات المكتوبة على الجلود والعظام والآجر وأوراق الشجر قديما، وها هي اليوم محروسة بالذواكر النابهات، وبالفعل الفلسطيني المضيء بأفعاله الماجدة.

Hasanhamid55@yahoo.com