الفتى بائع الملوخية والبامية

أخبارالبلد- أمام أحد مولات عمّان بقيت في السيارة انتظر زوجتي وابنتَي لشراء ما يمكن شراؤه. على رصيف المول رأيت فتًى جالساً على الرصيف وأمامه أكياس صغيرة داخلها شيء أخضر. خمنت أنها الملوخية التي نحبها. قررت أن أقول لزوجتي حين تخرج ان تشتري منها وهي
الحريصة على أن تدخر للشتاء مونتنا من الملوخية، مفرزة وناشفة.
حين خرجت رأيتها تقف أمام الفتى وتشتري عدة أكياس ملوخية وبامية وكوسا تجهزها له أمه ليبيعها. جاءت مبتهجة، ظننت للملوخية وإذ بها تقول لي هل تعلم أن هذا الفتى اليوم طلعت نتيجته في التوجيهي بمعدل 88.5 علمي. طبعاً فرحت كما لو أنه ابني. سألتها وما حكايته؟
قالت أخبرني انه كان وأهله يسكنون في اربد وضاقت بهم الأحوال ورحلوا إلى مخيم البقعة وهو مضطر ان يعيل أسرته فكان يدرس ويشتغل.
بكيت وتذكرتني وسواي ممن كانوا يدرسون تحت عامود الكهرباء في الحارة لانه ليس في البيت كهرباء بل ضو كاز. ولم يكن فيه الا
مكاناً واحداً للأكل والجلوس والنوم. كان البيت كله غرفة من طين وسقف من زينكو او طين وحوش فيه شجرات منها دالية وليف و.. حنفية نحاسية واحدة تحتها برميل بجانبه زير فخار - ثلاجة زمان.
مسحت دموعي واعطيت زوجتي «اللي فيه النصيب» وقلت لها أعطيها له وقولي له هذا حلوان نجاحك. عادت إلى السيارة ورأيت الفتى رافعاً يديه بالدعاء. لوحت له محيياً، لوح لي وغادرنا. لكن مشهد الفتى لم ولن يغادرني، تماماً كما لم يغادرني مشهدي عندما كنت في عمره.
لم أكن أبيع الملوخية و البطاطا و البامية في الشوارع وعلى الأرصفة وأنا في مثل عمره. فقد كان أبي يبيعها في دكانه في حسبة الخضار في الزرقاء. عندما كنت أنهي عمل الواجبات المدرسية وأحضّر دروس اليوم التالي كنت أحياناً أذهب إلى الدكان. بمجرد أن أرد عليه السلام يقول لي بصرامة « ها خلصت دروسك؟» أجيب « اه والله يابا «. يمسح حبة تفاح جيداً، يغسلها بماء ابريق الفخار ويعطيني اياها. أحياناً أمضي عنده حوالي ساعة وأغادر. يستوقفني ويسألني «بدك مصاري؟»، لا يابا معي، مع انه لم يكن معي. تعال، يعطيني شلن وأغادر. وأحيانا أبقى عنده حتى قبيل المغرب وأعود معه إلى البيت.
ذات يوم تأخرنا إلى ما بعد المغرب. خرجت قريباً من الحسبة باتجاه شارع شاكر وكانت الدكاكين تغلق مع المغرب وتضع مخلفاتها في كراتين فيأتي عمال النظافة يجمعونها وينظفون الشارع. فوجئت بعامل يلف رأسه ونصف وجهه بحطة «كوفية»، بيده مكنسة منهمكاً في عمله. توقفت تمعنت بوجهه و.. صدمت.
يا الهي انه مصطفى ابن صفي في الثاني ثانوي. على الفور ابتعدت وأدرت وجهي عنه ولا أعرف إن كان هو رآني أم لا. ولم أخبره ولم أشعره أبداً برؤيته في ذاك المساء الذي كان فاصلاً في حياتي. فقد فتح عقلي على دائرة أوسع وعلمني دروساً أقلها تقديس العمل مهما كان. إضافة إلى احترام عامل النظافة كاحترام الوزير والسفير
هذا الفتى بائع الملوخية في يوم نجاحه في التوجيهي سيظل في ذاكرتي ما حييت وكلي ثقة أنه سيكون يوماً ما طبيباً او مهندساً أو عالماً أو... وزيراً.