رمزيات المخيم الفلسطيني وتفاعلاته..!
أخبار البلد- إذا كنتَ فلسطينيًا وأردتَ أن تؤكد اكتمال فلسطينيتك، ستذكر أنك عشت في مخيم. سوف يميزك ذلك عن فلسطيني ولد وعاش في مدينة مختلطة في أي منفى. سوف تظهر أنك عشت الخبرة الفلسطينية، المؤلمة بكل معنى، حتى العظم، بما فيها الحالة غير الطبيعية التي ينطوي عليها العيش في مخيم.
على عكس المدينة، المخيم مكان مجرد من الخصوصية. يبدأ ذلك مع الخيام المصنوعة من قماش رقيق بالكاد يعزل الفرد عن الفضاء المفتوح، وحيث ينتهي أي مظهر للخصوصية القليلة بمجرد الخروج من باب الخيمة. وحتى عندما تتلاشى الصفة المؤقتة للخيمة مع السكن في «البرّاكيات» أو حتى بناء منازل مسقوفة من الإسمنت، فإن نوع العلاقات بين سكان المخيم يكون قد تطبع باللاخصوصية. إنك لست مضطرًا إلى التظاهر أو إخفاء الأشياء عن أناس يعرفون حقيقتك، وظروفك، وقصتك التي هي قصتهم في نهاية المطاف. ويبدو كما لو أنك تبادل خصوصيتك بدفء المجموع وتجانسه وتعاطفه غير المصطنع.
على أحد المستويات، يعزز المخيم الهوية الفلسطينية التي يحملها مكثّفة. إن وجوده في حد ذاته يؤكد أن ساكنيه مهجّرين، وليسوا أناسًا خرجوا من بلدهم بمخطط وإرادة مثلما يفعل مهاجرون طوعيون آخرون. وكان هذا الخروج الطارئ هو الذي صنع المخيم كاستجابة طارئة لإغاثة منكوبين. ومن المفارقات أن الاحتفاظ بهذه الصفات وإبرازها يشكل واحدة من أهم الأدوات الكفاحية، حيث تضمن صفة «لاجئ» للفلسطيني حق المطالبة بالعودة، وحيث يحفظ المخيم علامات الهوية التي يمكن عرضها على أي زائر: هذا التكوين الفيزيائي غير الطبيعي المتميز عن محيطه، الذي يتعذر إنكاره، هو ملجأ اللاجئين الفلسطينيين المنكوبين الذين شردهم المستعمرون، والذين تحتاج مشكلتهم إلى حل. المخيم هو وليد حمل مشوه صنعته غالبًا حادثة اغتصاب، وتستوجب تبعاته المشوهة التصحيح.
بطبيعة الحال، سوف يثير التعامل مع فكرة المخيم إشكاليات منطقية ومغالطات أخلاقية. يحدُث أن الفلسطينيين يغادرون المخيم حيثما تتحسن أحوالهم. بعضهم يغترب مرة أخرى وبالبعض ينتقلون للعيش في أي مكان خارج المخيم. فبعد كل شيء، يشكل المخيم ببعض المعاني إهانة مجسدة، باعتباره مكانًا غريبًا عن محيطه، يتيح حيزًا صغيرًا لساكنه، مكانيًا ونفسيًا. وهو تعبير مادي عن الهزيمة، والمشقة، والفقر والغربة واللاطبيعية.
لكن زوال المخيم، في الحالة الفلسطينية حيث ليست العودة إلى الوطن خيارًا متاحًا، خسارة أكيدة لرمزيات المخيم، الضرورية للأسف لإثبات الفلسطينية كوجود. للمخيم علاقة عضوية بسجلات وكالة الغوث، و»بطاقة التموين» التي تشكل إثبات الهوية الوحيد تقريبًا للاجئين الفلسطينيين وصلتهم الموثقة بالوطن. ومن المفارقات أيضًا أن عدم حاجة مغادري المخيم إلى إعانات «الوكالة»، وبالتالي عدم ضرورة الحصول على «كرت المؤن»، تخرج المغادرين من سجل إحصاء اللاجئين الفلسطينيين. وبشكل ما، يختفي مع اختفاء المخيم التجسيد الحي للنكبات الفلسطينية. مع اختفائه يختفي «المعرض» الذي يضم القطع «الأثرية» الحسية لفظاعة الإجرام الذي مارسه الغزاة الصهاينة في فلسطين.
في المقابل، تعرض المخيمات الفلسطينية في لبنان جانبًا آخر من المفارقة في القصة الفلسطينية التي كلها مفارقات. هناك يعني المخيم، بقدر ما هو حافظ للهوية، العيش في أسوأ ظروف ربما يعرفها البشر على الإطلاق. هناك، يُرغم المخيم على الاحتفاظ بأسوأ سمات المخيم، بذريعة أن عدم دمج سكان المخيم في المجتمع الأكبر، وعزله بشدة وإبقاءه منكفئًا على مشاكله، هو خدمة للقضية على أساس إدامة رمزية المخيم، حتى بتذكير ساكنيه كل الوقت بأنهم غرباء، طارئون، بلا حقوق مثل المواطنين. وهذا ما يُفترض أن يجعل اللاجئين لا ينسون هويتهم ويحتفظون بانتمائهم ويؤشرون بوجودهم المعذَّب على وجود مشكلة تستوجب الحل. وكان المخيم في لبنان، حيث يرتفع علم فلسطيني غير مرئي، هو الذي وضع الفلسطينيين مكثفين ليكونوا موضوعاً مفروزًا ومعلمًا للمذبحة، في صبرا وشاتيلا.
في لبنان، يصرّون على عدم «التوطين» بمعنى عدم منح الفلسطينيين الجنسية، ومعها حقوق المواطنة ومعظم الحقوق الإنسانية الأساسية. وقائمة الحقوق التي يُحرَم منها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان طويلة ومعروفة. وربما يكون هذا «الحب القاسي» للفلسطينيين الذي يؤكد غربتهم واختلافهم بهدف الحفاظ على فلسطينيتهم، هو التعبير المسبَّب عن عدم الرغبة في تجنيس «غرباء» ينتمون إلى الطائفة السنية في أغلبهم، سيخلون بالتوازن الطائفي. لم يحدث أن نسي الفلسطينيون المجنسون بجنسيات عربية أو في أي مكان في العالم انتماءهم أو مطالباتهم بحق العودة. وقد عملوا وأخلصوا وبنوا في كل مكان مضياف احتضنهم. وأينما كانوا، حمل الذين عاشوا منهم في المخيمِ المخيمَ في تكوينهم العضوي وظلوا ينتمون إليه وإلى ما يرمز إليه.
المخيمات الفلسطينية في لبنان مفرطة في لا طبيعيتها وشروطها. إنها دويلات محاصرة، منكفئة على علاتها، وسلاحها، وفصائلها وصراعاتها، والتي يُراد لها أن تظل خارج الموضوع. الآن، مثلًا، ثمة حرب أهلية فلسطينية تدور في مخيم عين الحلوة، حيث يسقط القتلى والجرحى وكأنهم في مكان خارج فضائي، وحيث تنعكس صراعات السلطة الفلسطينية المؤسفة حتى في هذا المكان البائس.
وأين المفارقة؟ يتحدث البعض عن صفقة تتضمن رفع الحصار عن مخيمات اللاجئين في لبنان ودمج سكانها في المجتمع، مقابل تخفيف الضغط عن لبنان ومساعدته في حل أزمته. وهكذا، يكون شرط إخراج الفلسطينيين من المخيم ومتعلقاته هو «التوطين»، بالمعنى الذي يتذرع به معارضو التوطين اللبنانيون– أي محو العلامات والرمزيات التي تجسدها المخيمات الفلسطينية. وسيكون ذلك خدمة للعدو الصهيوني ورغبة لرعاته الأميركيين والأوروبيين. ماذا سنريد: بقاء المخيم بما يشترطه على ساكنيه، أم إزالته لجهة إعطاء ساكنيه السابقين فرصة في عيش الجزء المتاح من الحرية في المنفى؟
في الحقيقة، لن يزول المخيم إلا بانتهاء الوضع غير الطبيعي الذي أنجبه، وعندما يعود ساكنوه الطارئون إلى وطنهم. المخيم شيء في تكوين الفلسطيني، الذي عاش فيه أو لم يعش. المخيم مرادف اللجوء الإجباري ورمز إغاثة المنكوب. ولذلك أي إغاثة للمنكوبين الفلسطينيين بأي شكل هي في النهاية «مخيم» يُفترض أن يكون طارئًا ومؤقتًا. وقد بُذلت محاولات عدوانية لرفع صفة «لاجئ» عن نسل الفلسطينيين المهجّرين وإنهاء «وكالة الغوث»، بما يعني انتهاء مفهوم «المخيم» كوجود ومعنى ورمز وحقوق. لكنّ المقتضى يفرض وجوديًا على الفلسطينيين التمسك بصفة «لاجئ»، ومعها بالمخيم، بما ينطويان عليه من ألم وتشويه- وأمل.
على أحد المستويات، يعزز المخيم الهوية الفلسطينية التي يحملها مكثّفة. إن وجوده في حد ذاته يؤكد أن ساكنيه مهجّرين، وليسوا أناسًا خرجوا من بلدهم بمخطط وإرادة مثلما يفعل مهاجرون طوعيون آخرون. وكان هذا الخروج الطارئ هو الذي صنع المخيم كاستجابة طارئة لإغاثة منكوبين. ومن المفارقات أن الاحتفاظ بهذه الصفات وإبرازها يشكل واحدة من أهم الأدوات الكفاحية، حيث تضمن صفة «لاجئ» للفلسطيني حق المطالبة بالعودة، وحيث يحفظ المخيم علامات الهوية التي يمكن عرضها على أي زائر: هذا التكوين الفيزيائي غير الطبيعي المتميز عن محيطه، الذي يتعذر إنكاره، هو ملجأ اللاجئين الفلسطينيين المنكوبين الذين شردهم المستعمرون، والذين تحتاج مشكلتهم إلى حل. المخيم هو وليد حمل مشوه صنعته غالبًا حادثة اغتصاب، وتستوجب تبعاته المشوهة التصحيح.
بطبيعة الحال، سوف يثير التعامل مع فكرة المخيم إشكاليات منطقية ومغالطات أخلاقية. يحدُث أن الفلسطينيين يغادرون المخيم حيثما تتحسن أحوالهم. بعضهم يغترب مرة أخرى وبالبعض ينتقلون للعيش في أي مكان خارج المخيم. فبعد كل شيء، يشكل المخيم ببعض المعاني إهانة مجسدة، باعتباره مكانًا غريبًا عن محيطه، يتيح حيزًا صغيرًا لساكنه، مكانيًا ونفسيًا. وهو تعبير مادي عن الهزيمة، والمشقة، والفقر والغربة واللاطبيعية.
لكن زوال المخيم، في الحالة الفلسطينية حيث ليست العودة إلى الوطن خيارًا متاحًا، خسارة أكيدة لرمزيات المخيم، الضرورية للأسف لإثبات الفلسطينية كوجود. للمخيم علاقة عضوية بسجلات وكالة الغوث، و»بطاقة التموين» التي تشكل إثبات الهوية الوحيد تقريبًا للاجئين الفلسطينيين وصلتهم الموثقة بالوطن. ومن المفارقات أيضًا أن عدم حاجة مغادري المخيم إلى إعانات «الوكالة»، وبالتالي عدم ضرورة الحصول على «كرت المؤن»، تخرج المغادرين من سجل إحصاء اللاجئين الفلسطينيين. وبشكل ما، يختفي مع اختفاء المخيم التجسيد الحي للنكبات الفلسطينية. مع اختفائه يختفي «المعرض» الذي يضم القطع «الأثرية» الحسية لفظاعة الإجرام الذي مارسه الغزاة الصهاينة في فلسطين.
في المقابل، تعرض المخيمات الفلسطينية في لبنان جانبًا آخر من المفارقة في القصة الفلسطينية التي كلها مفارقات. هناك يعني المخيم، بقدر ما هو حافظ للهوية، العيش في أسوأ ظروف ربما يعرفها البشر على الإطلاق. هناك، يُرغم المخيم على الاحتفاظ بأسوأ سمات المخيم، بذريعة أن عدم دمج سكان المخيم في المجتمع الأكبر، وعزله بشدة وإبقاءه منكفئًا على مشاكله، هو خدمة للقضية على أساس إدامة رمزية المخيم، حتى بتذكير ساكنيه كل الوقت بأنهم غرباء، طارئون، بلا حقوق مثل المواطنين. وهذا ما يُفترض أن يجعل اللاجئين لا ينسون هويتهم ويحتفظون بانتمائهم ويؤشرون بوجودهم المعذَّب على وجود مشكلة تستوجب الحل. وكان المخيم في لبنان، حيث يرتفع علم فلسطيني غير مرئي، هو الذي وضع الفلسطينيين مكثفين ليكونوا موضوعاً مفروزًا ومعلمًا للمذبحة، في صبرا وشاتيلا.
في لبنان، يصرّون على عدم «التوطين» بمعنى عدم منح الفلسطينيين الجنسية، ومعها حقوق المواطنة ومعظم الحقوق الإنسانية الأساسية. وقائمة الحقوق التي يُحرَم منها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان طويلة ومعروفة. وربما يكون هذا «الحب القاسي» للفلسطينيين الذي يؤكد غربتهم واختلافهم بهدف الحفاظ على فلسطينيتهم، هو التعبير المسبَّب عن عدم الرغبة في تجنيس «غرباء» ينتمون إلى الطائفة السنية في أغلبهم، سيخلون بالتوازن الطائفي. لم يحدث أن نسي الفلسطينيون المجنسون بجنسيات عربية أو في أي مكان في العالم انتماءهم أو مطالباتهم بحق العودة. وقد عملوا وأخلصوا وبنوا في كل مكان مضياف احتضنهم. وأينما كانوا، حمل الذين عاشوا منهم في المخيمِ المخيمَ في تكوينهم العضوي وظلوا ينتمون إليه وإلى ما يرمز إليه.
المخيمات الفلسطينية في لبنان مفرطة في لا طبيعيتها وشروطها. إنها دويلات محاصرة، منكفئة على علاتها، وسلاحها، وفصائلها وصراعاتها، والتي يُراد لها أن تظل خارج الموضوع. الآن، مثلًا، ثمة حرب أهلية فلسطينية تدور في مخيم عين الحلوة، حيث يسقط القتلى والجرحى وكأنهم في مكان خارج فضائي، وحيث تنعكس صراعات السلطة الفلسطينية المؤسفة حتى في هذا المكان البائس.
وأين المفارقة؟ يتحدث البعض عن صفقة تتضمن رفع الحصار عن مخيمات اللاجئين في لبنان ودمج سكانها في المجتمع، مقابل تخفيف الضغط عن لبنان ومساعدته في حل أزمته. وهكذا، يكون شرط إخراج الفلسطينيين من المخيم ومتعلقاته هو «التوطين»، بالمعنى الذي يتذرع به معارضو التوطين اللبنانيون– أي محو العلامات والرمزيات التي تجسدها المخيمات الفلسطينية. وسيكون ذلك خدمة للعدو الصهيوني ورغبة لرعاته الأميركيين والأوروبيين. ماذا سنريد: بقاء المخيم بما يشترطه على ساكنيه، أم إزالته لجهة إعطاء ساكنيه السابقين فرصة في عيش الجزء المتاح من الحرية في المنفى؟
في الحقيقة، لن يزول المخيم إلا بانتهاء الوضع غير الطبيعي الذي أنجبه، وعندما يعود ساكنوه الطارئون إلى وطنهم. المخيم شيء في تكوين الفلسطيني، الذي عاش فيه أو لم يعش. المخيم مرادف اللجوء الإجباري ورمز إغاثة المنكوب. ولذلك أي إغاثة للمنكوبين الفلسطينيين بأي شكل هي في النهاية «مخيم» يُفترض أن يكون طارئًا ومؤقتًا. وقد بُذلت محاولات عدوانية لرفع صفة «لاجئ» عن نسل الفلسطينيين المهجّرين وإنهاء «وكالة الغوث»، بما يعني انتهاء مفهوم «المخيم» كوجود ومعنى ورمز وحقوق. لكنّ المقتضى يفرض وجوديًا على الفلسطينيين التمسك بصفة «لاجئ»، ومعها بالمخيم، بما ينطويان عليه من ألم وتشويه- وأمل.