العالم يتموضع.. كتل تتقارب وأخرى تفترق.. أين العرب؟

أخبار البلد- 

الصراع على أشده بين الدول الكبرى، فنحن نعيش لحظة تاريخية صعبة ستتقرر خلالها موازين قوى تنتج نظاما دوليا جديدا قد يسود لعقود قادمة، وفي مرحلة حساسة كهذه الجميع يعمل بجد واجتهاد وبذكاء، كل طرف يعمل على تجميع اوراق قوته ويحسب خطواته بدقة، فأي خطأ في الحسابات قد يأخذ صاحبه الى موقع المهزومين والخاسرين. وخلال ذلك قد لا تكون قوة الدول منفردة ذات قيمة، فالدول الكبرى ذاتها تتكتل وتتموضع بناء على حساب المصالح واحتمالات المستقبل.

اقليميا ايران، على سبيل المثال، وبالرغم من تموضعها مع الاتحاد الروسي والصين، فإنها تعمل على الانفتاح اقليميا وتسوية خلافاتها في محاولة تمهيد لانشاء تحالفات إقليمية جديدة تحسن من موقعها في اي نظام دولي قادم. ولكن انشط المتحركين في هذا المجال الرئيس التركي اردوغان، الذي قلب توجهاته في الاسابيع الاخيرة رأسا على عقب، ويحاول التموضع من الغرب من جديد مستخدما كل اوراق قوته، وخاصة الموقع ألجيوسياسي المهم لبلاده في الصراعات القائمة، ويحاول التقارب مع دول الخليج ومصر، ويقوم بإبرام اتفاقيات امنية واقتصادية تقوي موقع تركيا، وفي الاثناء ومع تحول الحرب الاكرانية الى حرب استنزاف حقيقية قد تطول لسنوات قادمة، بدا اردوغان إدارة الظهر لصديقه بوتين والعودة الى الحضن الاميركي الاطلسي ولكن من موقع قوة.

تحركات مشابه في آسيا، جنوب شرق القارة ووسطها، الدول تتحرك وتتموضع ضمن تحالفات إقليمية ودولية لتضمن لها تذكرة دوخل للنظام الدولي القادم. والامر نفسه في أفريقيا وامريكا اللاتينية فالجميع يراقب ويتحرك، يتقارب نحو حلفاء تقليديين له او جدد، وفي النهاية للجميع الهدف ذاته ان يبقوا على قيد الحياة وان يمتلكوا تأثيرا اكبر في لعبة الامم. اما افريقيا فالصراع فيها اكثر وضوحا ويدور على اشده بين الصين وروسيا من جهة والغرب من جهة أخرى. فهذه القارة لاتزال تمثل لجميع الأطراف مناجم الذهب واليورانيوم وكل انواع المعادن والثروات، ودول القارة بالمقابل تبحث عن مكان لها في قطار التغيير. بعضها يراهن على روسيا والصين والبعض الاخر لا يزال يراهن على الغرب، وقسم اقل يبحث عن وضع مستقل يضع القارة في موضع منافس في السياسات الدولية والإقليمية، وتقود جنوب افريقيا مثل هذه التحركات، خصوصا انها ستستضيف قمة بريكس التي تضم الى جانب جنوب افريقيا كلا من الصين وروسيا والبرازيل والهند خلال الشهر الجاري.

دون شك ان عددا من الدول العربية تقوم بالشيء ذاته، وخاصة السعودية ودول الخليج، فهي تمتلك من أوراق القوة ما يجعلها جهة مطلب ودها والتقرب لها فبالاضافة الى الموقع ألجيوسياسي المهم، فإن هذه الدول تمتلك الثروات التي تمثل ورقة حاسمة في الصراعات الدائرة.

في شمال افريقيا تقوم الجزائر والمغرب كل على طريقته في التحرك والتموضع مع حلفاء إقليميين ودوليين بهدف تعزيز موقع كل منهما في خارطة العالم الآخذة في التبلور. تبقى الدول العربية التي طحنها الربيع العربي كليا او جزئيا سوريا، ليبيا، اليمن. وحتى مصر وتونس والعراق، فهذه الدول اما تعاني من التفكك والانقسام او من ازمات اقتصادية تضعف من محاولاتها والقيام بتحركات فعالة. ربما مصر تمتلك قدرة اكبر من غيرها، بسبب اهميتها ألجيوسياسية الحاسمة في صراع القوى الكبرى، لذلك فإن لديها من اوراق القوة ما يجعلها قادرة على التحرك بالرغم من ازمتها الاقتصادية.

الواقع الفلسطيني ليس بأفضل حالاته، فهنك انقسام لا يزال متحكما في الواقع الفلسطيني، بالإضافة الى تفكك الحركة الوطنية وضعفها، وما يتعرض له المشروع الوطني من مخاطر مع تكالب القوى الفاشية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية. والمشكلة في إطار هذا الواقع، ان لا امل في المدى القريب او حتى المتوسط في أن يتجاوز الشعب الفلسطيني انقسامه السياسي ويعيد ترتيب اوضاعه ويحقق وحدته، وله استراتيجية موحدة وقرار سياسي واحد ومستقل، لذلك هناك مخاوف حقيقية لدى الشعب الفلسطيني ان يكرر التاريخ نفسه مع القضية الفلسطينية لتدفع ثمن ما يجري من متغيرات على الساحة الدولية، تماما كما حصل بعد الحربين الاولى والثانية.

ما تفتقر له الامة العربية، لتكون قادرة على الصمود في المرحلة الدقيقة، وان تضع نفسها في موقع مقبول في النظام الدولي الجديد، هو عجزها في تحقيق قدر اكبر من التضامن فيما بينها، فالاعتقاد بأن الخلاص يمكن ان تحققه كل دولة على حدة هو اقرب الى الوهم، وقد تستغل الدول الإقليمية القوية الثلاث: إسرائيل تركيا وإيران، ضعف العرب وتحقق المكاسب على حسابها خصوصا ان طهران وضعت نفسها كحليف لروسيا والصين، وعينها على الولايات المتحدة الأميركية بعد فض مشكلة الملف النووي. اما تركيا فهي التفت بزاوية 180 درجة لتعود وتتموضع مع حلف الاطلسي وتعيد علاقاتها المتينة مع واشنطن، وكلا الدولتين ايران وتركيا تبحثان في الوقت نفسه عن تحالفات اقليمية تدعم تحالفاتها الدولية.

ولمعرفة اوراق القوة التي يملكها العرب، فمساحة الوطن العربي تبلغ 14 مليون كيلو متر مربع، اي اكثر بقليل من عشر مساحة العالم، كما يبلغ الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة 3 تريليونات ونصف التريليون ما يعادل اقتصاد المانيا رابع اقتصاد في العالم، بالإضافة -هذا هو الاهم- الى الموقع ألجيوسياسي الذي لا يضاهيه موقع اخر في العالم من حيث موقعه المتوسط بين اربع قارات، وسيطرته على اهم ممرات بحرية وبرية وجوية. كما تكمن اهمية الوطن العربي بثرواته وما لديه من احتياطيات نفط تزيد عن 57 % من الاحتياط العالمي، ولديه اكثر من 27 % من احتياط الغاز.

دون شك ان دول الخليج العربي هي الاكثر أهلية بين الدول العربية للعب دور مهم في الحاضر وفي المستقبل، وهي تحاول ذلك، ولكن ستكون هذه الدول في وضع افضل بكثير ان هي اقتنعت بانها ستكون اقوى بعد فرض تسوية عادلة للقضية الفلسطينية مع إسرائيل، وتكون مصر والعراق وسوريا الى جانبها. فإذا ما تحققت هذه التسوية ستكون دول الخليج وكل الدول العربية قد وضعت قدمها بالفعل في النظام الدولي القادم بقوة ومعها فلسطين، بل ويكون العرب من اللاعبين المهمين في النظام الموعود.

لقد حاول العرب الاقلاع مرارا دون ان تكون فلسطين على خارطة الشرق الأوسط، ولكن بقوا يراوحون في المكان ذاته، فغياب الاستقرار والسلام قد يهدد كل مشاريع التنمية في اية لحظة، وكم هو مهم صوغ شرق اوسط بلا توترات وأزمات وتصفير الخلافات بين دول المنطقة، فإن إقامة دولة فلسطينية هو حجر الزاوية لتحقيق كل ذلك. لا يمكن رسم اي خارطة للمنطقة تضمن الامن والاستقرار دون دولة فلسطين، ولعل تجارب التطبيع العربي قد ثبت فشلها، او انها لم تحقق اهدافها دون انهاء الاحتلال الإسرائيلي وإيجاد تسوية اكثر عدلا للقضية الفلسطينية.