حدّ القنص طلقة

أخبار البلد- سامح الله هوليوود وغفر لبوليوود (النسخة الهندية من صناعة السينما الأمريكية) وهدانا نحن الجمهور الذي يمدهما بالمال دون كلل أو وجل. فمازالت أفلام العنف باسم الإثارة في الصدارة. ومنها ما يغرق في سرد تفاصيل ذلك العنف، بصرف النظر إن كان يمثل رجال إنفاذ القانون وهم في مرتبة الأبطال، أو إن كانوا يمثلون إرهابيين ومجرمين وجميعهم في درك الأراذل الأنذال مهما برروا إرهابهم وجرائمهم.


لدي شغف يصل إلى حد الولع بالأفلام البوليسية (خاصة مشاهد المطاردات-الراجلة أكثر من الآلية) والعسكرية والأمنية (على نحو خاص كشف الغموض مبكرا قبل الأوان الذي أراده المخرج). لكن من الشخصيات التي تتطلب فنا إضافيا في صناعة النجم، ذلك الذي يمثل دور القنّاص وقد كان عنوان «قنّاص أمريكي» وهو فيلم من إخراج النجم الأمريكي العالمي العملاق كلينت إيستوود، وأنتج عام 2014 تخليدا لذكرى كريس كايل أحد رجال النخبة في البحرية الأميركية المعروفين باسم «نيفي سييلز»، أسود البحر. قام بتمثل دور بطل الفيلم الذي بلغت عائداته خمسمئة وسبعة وأربعين مليونا وأربعمئة ألف دولار النجم الأمريكي، الرائع برادلي كوبر. بطبيعة الحال، القنص حرفة قد يقوم بتنفيذها بطل مغوار أو خائن غدّار.

وفي صنعتنا، حرفتنا والأهم رسالتنا، كمعنيين بصناعة الوعي، كتابا كنا أم صحفيين أم تربويين معلمين، أم قياديين (سياسيين أو إداريين)، تعدل الكلمة طلقة. والكلمة في هذا الزمان- زمان السمعيات والمرئيات والبرمجيات والمصفوفات- في عالم الذكاء الاصطناعي، لم تعد الكلمة تعدل طلقة، بل الكلمة والصوت والصورة. جميعها طلقة من ذلك النوع الذي يستخدمه أحيانا القناص، طلقة الخارق الحارق المتفجر..

لكن أيا كان اختيار القناص لنوع الذخيرة، فإنها طلقة واحدة إما صابت أو خابت. الخيبة هنا تعني ليس فقط ضياع الهدف وإنما في حالات الاشتباك الافتراضي والحقيقي قد تعني فتح جبهات لا بل وثغرات تجعل من العدو الواحد عش دبابير يفرّخ الكثير من الأفاعي والكثير الكثير من الحرابيّ، وهي في زماننا أخطر..

تحزنني جدا وإلى حد الحنق والاختناق، حماسة بعض القناصة الذين يخسرون معركة لافتقادهم متطلبات الحرفة. القنص حرفة يختار لها صفوة الصفوة وخيرة الخيرة من بين الجنود. كل الجنود شجعان ومغاوير، لكن لحرفة القنص شروطها الموضوعية البحتة ومنها نفسي جسمي يتعلق بما يعرف بالسبات الانفعالي. ومنها أيضا عمق التنفّس وضبطه (لا ضبط الأنفاس فقط)، بمعنى يحرم على القناص التدخين وتجب عليه لياقة بدنية ونفسية وعقلية خاصة تستطيع عزل نفسها عن المحيط، حماية للواجب الذي لا يجوز فيه الخطأ أبدا، إذ يعدل أحيانا خطيئة..

نتعرض كوطن أحيانا إلى إساءة أو حملة، فيتسابق الأحرار الغيارى للرد، وبلغة معظمهم، الصاع بصاعين.. جميلة ومباركة وغالية تلك الغيرة، لكن بعض الإساءات والحملات بحاجة إلى قناص للرد، بحاجة إلى فرقة مختصة للرد، لها عقل يضبط إيقاع تلك الردود. يدرك الناس -عامة الناس- العفوية ويقدّرونها، لكن الحملات لا تكافح إلا بحملات مضادة، والأفضل وقائية تضرب استباقيا فتردع قبل أن تحاسب وتؤدب..

أرى بعض الردود على المسيئين تسر الخاطر، لكن سرعان ما تنكشف بعض الثغرات وهذه بعضها: التجاهل أسلم من التعليق لأنه «يميت الباطل» ولا ينشره. إن تطلب الأمر ردا، فلا يكون من جنس لغة المسيء بل بإظهار النقيض من حيث الأخلاق. حصر الرد بموضوعه، وعدم تكبير الحجر فلا يصيب! لنتعلم من حجر داوود «الصغير» الذي صرع جبروت العملاق جالوت-غولياث، «جلياط» -بكسر الجيم المصرية- التي أتى من اسمه التعبير المصري الدارج «فلان بيتجليط علينا»! النأي بالنفس والترفّع والتحوّط من الاستدراج المدروس -عادة بخبث وغدر-من صناع تلك الحملة المسيئة. إلغاء متابعة وإن تطلب الأمر شطب والتبليغ عن حساب المسيء، وفي بعض الحالات، شطب وإلغاء متابعة حتى من أبدى إعجابه بالتعليق أو التغريد المسيء.
وأخيرا، اختيار الوقت المناسب للرد والذي قد لا يأتي أبدا على ذكر المسيء أو الإساءة وهذا ما يغيظهم ويحبط أعمالهم.. يعلمون جيدا -ال «شوسمهم» - أن للبيت ربّا يحميه، وأن الطلقة -طلقة واحدة فقط- ببيت النار..