ما هي الفلسفة

أخبار البلد-

 

أثناء قراءتي لكتاب يحمل عنوان برتراند راسل يتحدث عن مشاكل العصر ترجمة مروان الجابري عثرت على أحد الحوارات التي يتحدث بها راسل الفيلسوف الإنجليزي الشهير عن معنى الفلسفة، الفلسفة التي حظيت باهتمام كبير مؤخراً في الأوساط التربوية والثقافية في الأردن، من هنا وجدت أن هذا الحوار عن الفلسفة جدير بالنشر في جريدة يومية مما يتيح الفرصة لعدد كبير من القراء للتعرف على ماهية جوهر الفلسفة على يد واحد من كبار الفلاسفة في العصر الحديث وإليكم الآن ما جاء في الحوار الذي يحمل عنوان «ماهي الفلسفة":

 

 

 

بصفتك فيلسوفاً هل لك أن تحدد ماهية الفلسفة؟

اللورد راسل:

الواقع أن هذه مسألة تحتمل الكثير من الجدل والقيل والقال، وفي اعتقادي أن ما من فيلسوفين يعطيانك جواباً متماثلاً على هذا السؤال، وأرى شخصياً أن الفلسفة تتألف من التخمينات حول الأشياء التي لا يمكن بعد أن تتوفر المعرفة الدقيقة المضبوطة بها. هذا هو جوابي.... وهو وقف علي وحدي.

ما هو الفارق بين الفلسفة والعلم؟

اللورد راسل:

أن العلم على وجه التقريب هو ما نعرف، أما الفلسفة فهي ما لا نعرف، وهذا تعريف ساذج بسيط ولهذا السبب فإن المسائل تنتقل باستمرار من اختصاص الفلسفة إلى اختصاص العلم كلما تقدمت المعرفة.

أي أن الشيء المثبت والمكتشف لا يعود من الفلسفة في شيء، أنما يصبح من العلم؟

اللورد راسل:

أجل أن هنالك معضلات من كل نوع كانت تدعى بالفلسفة ولم تعد توصف هكذا.

ما هو نفع الفلسفة؟

اللورد راسل:

اعتقد أن للفلسفة نفعين في الحقيقة، احداهما هو انها تحافظ على استمرار ملكة التصور والتخمين في حقائق الأشياء التي لم تتكشف بعد للمعرفة العلمية، ولا سيما أن المعرفة العلمية لا تشمل إلا شطراً يسيراً من الأشياء التي تهم البشر والتي لها أن تهمهم، فهناك أشياء عديدة جداً ذات أهمية هائلة لا يعرف العلم عنها، في الوقت الراهن على الأقل، سوى النذر القليل ولا أريد لمخيلات الناس أن تكون محصورة ومحدودة ضمن ما يمكن أن يكون معلوماً في الوقت الراهن. واعتقد أن أحد منافع الفلسفة هي أنها توسع من نظرتك التخيلية إلى العالم في نطاق الافتراض.

وهناك نفع آخر يعادله في الأهمية هو أن الفلسفة تقيم الدليل على أ ن هناك أشياء كنا نظن أننا نعرفها ولكننا لا نعرفها في الواقع.

ومن جهة أخرى فإن الفلسفة تجعلنا نفكر دائماً في الأشياء التي قد نصل إلى معرفتها بينما تبقينا من جهة أخرى مدركين بتواضع مدى ما يبدو لنا أن معرفة، بينما هو ليس من المعرفة في شيء..

هل تستطيع أن تورد لنا أمثلة عن نوع المواضيع التي كانت موضع تكهن وتخمين ادياً إلى بعض النتائج المادية فيما بعد؟

اللورد راسل:

هذا سهل يسير وخاصة إذا استقينا الأمثلة من الفلسفة الإغريقية. لقد استنبط الاغريق مجموعة كاملة من الفرضيات والنظريات التي اثبتت نفعها وصحتها فيما بعد والتي لم يمكن اختبارها في ايامها.

لنأخذ مثلاً على ذلك قضية النظرية الذرية، لقد استنبط ديموقريطوس النظرة الذرية القائلة أن المادة مؤلفة من ذرات صغيرة، وبعد الفي عام أو أكثر من الفي عام تبين صدق هذه النظرية وأنها الرأي العلمي الصائب بينما لم تكن في ايامها اكثر من اجتهاد مقترح.

ثم لنأخذ قضية اريستار كوس:

لقد كان اريستار كوس أول شخص قال بأن الأرض تدور حول الشمس وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض وأن مظهر دوران الافلاك كل يوم ناجم عن دوران الأرض. ولقد ظلت هذه النظرية منسية مدفونة حتى أيام كوبرنيكوس أي زهاء الفي عام، ولربما ما كان ليخطر في بال كويرنيكوس أن يتحقق من دوران الأرض حول الشمس ولا أن يفطن إلى ذلك لولا اريستاركوس.

كيف يحدث هذا... هل يحدث بنوع من البديهية أو الحدس؟

اللورد راسل:

كلا فالأشخاص الذين كانوا أول من فكر بتلك الافتراضات النظرية لم يكونوا يستطيعون أن يقولوا:

«هذه هي الحقيقة»

أنما كان ما يستطيعون قوله هو:

"قد تكون هذه هي الحقيقة"

وأنك لتستطيع إذا كانت لديك مخيلة علمية جيدة أن تفكر بجميع أنواع الأشياء التي قد تكون صحيحة حقيقية. وهذا هو جوهر العلم: تفكر أولاً في شيء ربما كان صحيحاً ثم تسعى إلى التحقق مما إذا كان صحيحا...

وعلى الغالب لا يكون ذلك الشيء صحيحاً.

ولكن، ألم يكن افلاطون يعتقد أن نظرية ديموقريطس في الذرات كانت سخفاً بالغاً؟

اللورد راسل:

لقد كان ديموقريطس يرهب افلاطون ويخيفه فكان افلاطون يقول بوجوب أحراق جميع كتبه، أما السبب فيرجع إلى أن افلاطون لم يكن يهوي العلم لقد هوى الرياضيات ولكنه لم يحب أي شيء علمي آخر.

هل نفهم أن الفلسفة تصبح من هذه الوجهة وإلى حد ما خادمة للعلم؟

اللورد راسل:

الواقع أن هذا هو شطر من مهمتها... ولكن دور الفلسفة ليس أن تكون فقط خادمة للعلم- ذلك لان هنالك عدداً من الأشياء التي يمكن للعلم أن يعالجها، فالعلم لا ينبئك في جميع قضايا القيم، مثلاً، عما هو صالح نافع وعما هو رديء وعما هو صالح أو رديء بصورة كافية وليس كوسيلة فقط.

ما هو التغير الذي طرأ على مجرى السنين في موقف الفلاسفة وفي موقف الجمهور من الفلسفة؟

اللورد راسل:

هذا يتوقف على المدرسة الفلسفية التي تجول في خاطرك، فعند كل من أفلاطون وارسطو كان الأمر الرئيسي هو محاولة فهم العالم وادراكه وهذا في رأيي الشخصي هو ما يجب أن تفعله الفلسفة.

وننتقل من هذين الفيلسوفين إلى الفلاسفة الرواقيين الذين انصب توكيدهم واهتمامهم بصورة رئيسية على الأخلاق – فعليك لكي تصبح رواقياً أن تتحمل المصائب والرزايا بصبر- وقد عملت الفلسفة الرواقية على جعل الفلسفة ذات نفع شائع من حيث أنها تعزي الأنسان وتمكنه من تحمل المشاق.

هل كان كارل ماركس فيلسوفاً في رأيك؟

اللورد راسل:

لقد كان بالتأكيد فيلسوفاً بمعنى ما.... أي بمعنى أن هنالك فاصلاً هاماً بين نوعين من الفلاسفة فهناك فلاسفة لدعم الأوضاع القائمة «Statusquo» وهناك فلاسفة آخرون لقلب هذه الأوضاع القائمة- وبالطبع كان ماركس ينتمي إلى الفئة الثانية.

أما أنا فإنني أرفض فلسفة الفئتين باعتبار أن ما يتصدى لفعله اتباعها ليس المهمة الحقيقية للفيلسوف ولعلني يجب أن أقول أن مهمة الفيلسوف ليست تغيير العالم بل فهمه وأدراكه وهذا هو نقيض ما قال به ماركس.

أي نوع من الفلاسفة أنت؟

اللورد راسل:

أن النعت الوحيد الذي وسمت نفسي به هو الفيلسوف الذري المنطقي ولكنني لست كثير الحرص على هذه الصفة. فإنا أفضل أن اتحاشى الأوصاف.

ماذا يعني هذا التعبير: «الفيلسوف الذري المنطقي»؟

اللورد راسل:

اعتقد أنه يجب أن يميز المرء هنا بين الأقطار الناطقة بالإنجليزية وبين اقطار القارة الأوروبية، فالنزعة الفلسفية لكل من الفئتين هي الآن أكثر انفصالاً عن الأخرى مما سبق، ففي الأقطار الناطقة بالإنجليزية وبخاصة في بريطانيا، تجد فلسفة جديدة نشأت كما أعتقد من الرغبة في إيجاد حقل مستقل منفصل للفلسفة وأنه لخليق أن يبدو فيما سبق أن قلت منذ حين أن الفلسفة ليست إلا علماً غير مكتمل، ولكن هناك من لا يحبون هذا الرأي. فهم يريدون للفلسفة أن تكون ذات افق خاص بها وقد أدى ذلك إلى ما يمكن أن تدعوه بالفلسفة اللغوية حيث ليست الإجابة على الأسئلة هي أكثر الأشياء أهمية بالنسبة إلى الفيلسوف إنما أهم شيء هو التوصل إلى معنى السؤال بشكل تام الوضوح. أما أنا فلا أستطيع أن أقر هذا الرأي أو أن أوافق عليه وأن كنت أستطيع أن أعطيك صورة عنه:

كنت ذات يوم امتطي دراجتي متجهاً إلى وينشستر فتهت عن الطريق ودخلت إلى دكان قروي وسألت الرجل الذي لقيته:

"هل تستطيع أن تدلني على أقصر طريق إلى ونشستر»؟ فنادى الرجل الذي سألته على رجل كان في الغرفة الخلفية من الحانوت وقال له:

"أن السيد يريد أن يعرف أقصر طريق إلى وينشستر». فجاء صوت الرجل الآخر الذي لم أراه يقول:

"وينشستر؟. أي نعم... الطريق إلى وينشستر؟.

أي نعم... أقصر طريق؟ أي نعم... أنني لا أعرف».

وهكذا اضطررت بعد هذا إلى متابعة طريقي دون الحصول على أي جواب. وهذا ما تعتقد فلسفة اوكسفورد أن على المرء أن يفعله!

يعني أن تتفهم السؤال أو المشكل ولا تبالي بالجواب؟

اللورد راسل:

أن المنهج الأوروبي أكثر حيوية ولكنني لم أعد على وفاق معه وأن كان في الحقيقة أكثر حيوية وشبهاً بفلسفات الأزمنة الأولى. أن هنالك أنواعاً مختلفة في الفلسفة انحدرت من تجميل كير كجارد للفلسفة الوجودية، ثم هنالك فلسفات مهمتها أن تقدم المرافعات الدفاعية عن الديانة التقليدية. وهناك عدة أشياء من هذا النوع. ولكنني لا أظن شخصياً أنها تحتوي على أي شيء كبير الأهمية.

كلا... ولكن ما النفع العملي في نوع فلسفتك بالنسبة لإنسان يريد أن يعرف كيف يتصرف ويقود ذاته؟

اللورد راسل:

يكتب إليّ الكثيرون قائلين إنهم الآن في حيرة تامة فيما يتعلق بالكيفية الواجب أن يدبروا أمور أنفسهم بها لأنهم لم يعودوا يقبلون بالشارات التقليدية التي تشير إلى العمل السوي ولا يعرفون أية شارات أخرى يتبنون.

واعتقد أن نوع الفلسفة الذي أؤمن به ينفع حسب ما يلي:

أنه يمكن، الناس من العمل بقوة وحيوية عندما لا يكونون متأكدين إطلاقاً من أن ما يفعلونه هو العمل السوي... وهنا اعتقد بأن ما من أحد يجب أن يكون متأكداً متيقناً من أي شيء، فإذا كنت متيقناً فإنك مخطئ بالتأكيد لأن ما من شيء يستحق اليقين وهكذا فإن على المرء أن يحمل معتقداته مشوبة بشيء من عنصر الشك وعليه أن يعمل بقوة وحيوية على الرغم من الشك... وبعد فهذا ما يفعله القائد العسكري عندما يضع خطة لمعركة، فهو لا يعرف يقيناً ما سيفعله العدو ولكنه يستطيع أن يصيب في تخمينه بما سيفعل عدوه إذا كان قائداً بارعاً أما إذا كان قائداً رديئاً فإنه يخطئ في التخمين.

وعلى كل فإن على المرء في الحياة العملية أن يعمل معتمداً على الاحتمالات، وأود لو أن الفلسفة تشجع الناس على العمل بحيوية وقوة دونما يقين تام.

ولكن ألا تدخل الاضطراب إلى نفوس الناس إذا نزعت منهم اليقين بصحة ما يعتقدون وحقيقة ما يؤمنون؟

اللورد راسل:

أجل أن ذلك يحدث وقتياً ولكنني أعتقد أن قدراً معيناً من الاضطراب هو شطر جوهري من تربية العقل، وأن الناس، إذا كانوا على أي إلمام بالعلم، يكتسبون الثقل اللازم الذي يجنبهم الاضطراب التام على يد الشكوك التي يجب أن تخالجهم.

ما هو في رأيك مستقبل الفلسفة؟

اللورد راسل:

لا اعتقد أن الفلسفة قادرة في المستقبل على أن تكون على أي شيء من الأهمية المماثلة لأهميتها في عهد الإغريق أو العصور الوسطى، واعتقد أن بزوغ العلم وتوالي ارتقائه يقلل حتماً من أهمية الفلسفة.

كيف يمكنك أن تجمل قيمة الفلسفة في العالم الراهن وفي الآتي من السنين؟

اللورد راسل:

اعتقد أنها مهمة للغاية في العالم الحالي. لأنها كما سبق أن قلت، تجعلك مدركاً أن هنالك قضايا عظمى وهامة لا يستطيع العلم، على الأقل في الوقت الحاضر، أن يعالجها وأن الرأي العلمي بحد ذاته ليس وافياً.

وثانياً أنها تجعل الناس أكثر تواضعاً من الناحية العقلية وتجعلهم يدركون بأن الكثير العديد من الأشياء التي كان يظن أنها أكيدة قد تكشفت عن أنها غير صحيحة، وأنه ليس هنالك من طريق مختصر إلى المعرفة وأن فهم العالم أو إدراكه، وهذا في رأيي الهدف الذي يجب أن يستهدفه كل فيلسوف، هو مهمة عسيرة وعمل طويل يجب أن نكون معه متعنتي الرأي متصلبي العقيدة.