في الصحافة.. المصداقية أولاً

اخبارالبلد- «أعطني مساحتي لأعمل وأنا أحترم مكانك ومكانتك « كانت تلك القاعدة الذهبية التي تعلمتها من أساتذة كبار عملت بمعيتهم منذ بداية عملي في الصحافة. وهي إحدى القواعد الأساسية التي تبني أي عمل ناجح. قوامها احترام المهنية من جهة يقابلها احترام موقع المسؤول «الرئيس» من الجهة المقابلة. والاحترام لا يعني «حاضر سيدي» اذا رأيت أن قراره ليس على صواب بل ابداء رأيك باحترام وله أن يأخذ به أو لا يأخذ، فالقرار له.

تلك كانت القاعدة التي سادت علاقتي برئيس التحرير آنذاك المرحوم الدكتور نبيل الشريف. باحترام كان يرسل لي كتابياً بقلمه الأخضر الذي كان يحب الكتابة به توجيهاته. فهو الأدرى بمصلحة الجريدة والأكثر اطلاعاً على الأجواء بحكم مسؤوليته. وتلك أمور لم أكن أناقش فيها.

الثقة بمهنية مدير التحرير كانت العامل الثاني المهم في العمل. لم يكن، يرحمه الله، يتدخل في رسم الصفحة الأولى، لا الخبر الرئيسي «المانشيت» ولا حجم الأخبار الأخرى على الصفحة. وعندما كان يخرج من الجريدة كان يمر بمكتبي و يقول « عايز شيء أبو باسل ؟». كنت أُكبر فيه هذه العادة فأقف احتراماً « لا دكتور، تصبح على خير، اذا صار شي بخبرك «.

وكنت فعلاً عندما تتغلب مهنيتي على تقديري للموقف، أتصل به وأقول له « أريد أن أستخدم هذه الكلمة في المانشيت – طبعاً تكون الكلمة مما أسميه الكلمات المضيئة الجريئة التي تعبر عن موقف من الحدث – فاما أن يقول كلمته المحببة « لا عادي ما فيها شي، على بركة الله « واما « لا بلاش أبو باسل الوضع مش متحمل «. وبسبب «الثقة» كان المرحوم أيضاً واثقاً من نفسه ومني. لم يكن يرى الصفحة الأولى الا صباح اليوم التالي كما أي قارىء. فمسؤولياته أدق وأوسع من تفاصيل العمل اليومي.

هنا تتمثل الأمانة وهي من أسس العمل الصحفي. فأنت لا تكتب مقالاً يعبر عن رأيك بل مانشيتاً يعبر عن موقف الجريدة التي هي ليس أنت. وعندما تكون متفهماً لما نسميه خط الجريدة فانك تعمل وفق هذا الخط لا وفق ما تراه أنت. وغالباً ما كنت أعبر عن رأيي في زاوية « مع الحياة و الناس» يوم الأربعاء حيث كانت مخصصة كل يوم لواحد من الكتاب الكبار في الجريدة. أتذكر منهم خيري منصور، خليل السواحري، عريب الرنتاوي، د. سليمان عربيات، د.نبيل الشريف نفسه وزملاء آخرين محترمين مع الاعتذرار لمن لم تسعفني الذاكرة أن أذكرهم. كانت الزاوية على يمين الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من الجريدة يقابلها على اليسار الزاوية اليومية للصحفي المخضرم الكاتب ذو المبادىء الاستاذ راكان المجالي، فيما كان الكاتب الأكثر مقروئية حلمي الأسمر يطل على صباحات القراء يومياً بزاويته على الصفحة الثالثة بعنوان «خارج النص».

بعد حوالي سنة من كتابتي لـ «مع الحياة والناس» كل أربعاء سألني الأستاذ محمود الشريف : هل يدفعون لك مكافأة على الزاوية – خمسة وعشرون ديناراً على المقال -. استغربت سؤاله وكنت اظن أن من يتقاضى راتباً شهرياً لا يحق له تقاضي أي مبلغ عن أي عمل آخر. قلت له: لا. فأوعز للمدير المالي بأن يدفع لي بأثر رجعي من بداية كتابتي.

في تعاملي مع د.نبيل طبقت أيضاً مبدأ المصداقية وهو ما تعلمته في صحف الخليج، وللأمانة كان أحد سمات «الدستور» قبل انضمامي لأسرتها، ولم يزل. وأرسى هذا المبدأ الأستاذ محمود. فلا يكفي أن تنشر الخبر من مصدر واحد بل يجب أن تضمنه الرأي الآخر. أن تكون دقيقاً جداً لما قاله المصدر. لا تتقول عليه ولا تضع كلامك في فمه. ولا يجوز أن تنقل الخبر فلان عن فلان عن فلان بل اتعب واذهب الى المعني مباشرة و خذ الصافي منه.

المصداقية هي من أبقى لصحف عالمية مكانتها منذ عشرات السنين وقبل النشر الإلكتروني. مثل الواشنطن بوست ونيويورك تايمز الأميركيتين، لوموند الفرنسية، دير شبيغل الألمانية، الاندبندنت وفايننشال تايمز البريطانيتين. فهي صحف عالمية وان كان بعضها ذراعاً اعلامية لمؤسسة أو وزارة ما.

لهذه الأسباب وغيرها كنت مرتاحاً منتجاً في تلك المرحلة. أمارس مهنتي بقدر كبير من الحرية من دون انحياز الا للمهنية وللمصداقية و للوطن.

وتلك حكاية أخرى.....