البيئات المعقدة وشديدة التغير امتحان صعب للبقاء .. فهل فشلت وزارة الصحة في كونها أنموذجا للمنظمة المتعلمة؟

أخبار البلد-

 

في مقالنا السابق حاولنا التعرض ومن خلال المثال لكيفية قدرة المنظمات على التغلب على تقلبات البيئة الخارجية، والتكيف معها، وعرضنا مثالا حيا على ذلك وماجرى على سلاسل التوريد خلال فترة جائحة كورونا.

بعض النظريات تنفي قدرة المنظمة على النجاح في التكيف مع الظروف المتغيرة في بيئتها المحيطة، وأن الجمود سيمنع المنظمة من التغيير، وبالتالي يتم استبدال الشركة (شراؤها أو إفلاسها) من قبل منظمات أخرى أكثر ملاءمة للبيئة الجديدة.
وبالرغم من شيوع هذه النظرية في علم الاجتماع إلا أن البحث فشل في دعم حججها. بل هناك نظرية أخرى ترى أن المنظمات يمكنها التكيف مع الظروف المتغيرة من خلال محاكاة المنظمات الناجحة الأخرى. وأنه يمكن العثور على العديد من الأمثلة على الشركات التي تكيفت مع الظروف المتغيرة من خلال تقليد استراتيجيات الشركة المرموقة.

إن منظور الاختيار الاستراتيجي لا يقف عند هذا الحد بل يخطو خطوة أخرى إلى الأمام من خلال اقتراح كون المنظمات لا تتكيف فقط مع البيئة المتغيرة، ولكن لديها أيضًا الفرصة والقوة لإعادة تشكيل بيئتها. ويدعم هذا المنظور البحث الذي يشير إلى أن قرارات إدارة الشركة لها -على الأقل- تأثير كبير على أداء الشركة.

وتلتقي هذه النظرية وكون التكيف عملية ديناميكية مع وجهة نظر نظرية التعلم التنظيمي (المنظمة المتعلمة) - التي سبق الحديث عنها في مقال سابق- والتي تقول: أن المنظمة تتكيف بشكل دفاعي مع البيئة المتغيرة وأنها تستخدم المعرفة بشكل دفاعي لتحسين التوافق بينها وبين بيئتها.

تطورت الإدارة الإستراتيجية الآن لدرجة أن قيمتها الأساسية تكمن في مساعدة المنظمة على العمل بنجاح في بيئة ديناميكية ومعقدة، ولتكون قادرة على المنافسة في البيئات الديناميكية فقد أصبحت الشركات أقل بيروقراطية وأكثر مرونة.

في البيئات المستقرة مثل تلك التي كانت موجودة في السنوات الماضية، تضمنت الإستراتيجية التنافسية ببساطة تحديد مركز تنافسي ثم الدفاع عنه. وقد وجدت الشركات أنه لا يوجد شيء مثل إيجاد ميزة تنافسية دائمة. ووجدوا أن هذا لن يكون باتباع خطة خمسية مُدارة مركزيًا، ولكن في تجميع سلسلة من التوجهات الاستراتيجية قصيرة الأجل.

وهذا يعني أنه يجب على الشركات تطوير المرونة الإستراتيجية والقدرة على التحول من إستراتيجية مهيمنة إلى أخرى. كما ويتطلب ذلك التزامًا طويل الأمد بتطوير ورعاية الموارد الحيوية. وأن تصبح الشركة منظمة تعليمية وماهرة في إنشاء المعرفة واكتسابها ونقلها وتعديل سلطتها لتعكس المعرفة والرؤى الجديدة.

السؤال الافتراضي هنا: أين القطاعات الصحية من هذا كله؟

نظرًا لدور أنظمة الرعاية الصحية الأساسي في استعادة الرفاهية والحفاظ عليها، فإنها تعتمد إلى حد كبير على الأفراد وكفاءاتهم، ويبقى المؤشر الرئيسي لأداء المستشفى –نواة النظام الصحي- هو الخدمات الآمنة والمتسقة المقدمة للمرضى من قبل الطواقم الطبية وغير الطبية. ليكون حسن التواصل والتنسيق بين الفرق أمرا لا بد منه لتطوير أداء متماسك وضروري لتوفير الرعاية الطبية ذات الجودة العالية. وهذا يعني التزام مؤسسات الرعاية الصحية دائمًا بتعديل أدائها بسبب التغيرات الهائلة في انتشار الأمراض والأوبئة دون المساس بجودة الخدمات.

في قطاع الرعاية الصحية فإن البيئة المتغيرة تجبر كل مؤسسة في هذا القطاع الواسع على تعزيز الجودة والسلامة، لذا كان تطبيق نظرية المنظمة المتعلمة ضرورة استراتيجية في تحسين معرفة ومهارات الكوادر الطبية وتوجيهها لإيجاد طرق أفضل للعمل بفعالية.

التعلم التنظيمي هو عنصر حاسم للقدرة التنافسية في بيئة ديناميكية. ومن المهم بشكل خاص الابتكار وتطوير المنتجات الجديدة. ففي سبيل نقل المعرفة أنشأت شركة سيمنز - وهي شركة إلكترونيات كبرى- شبكة عالمية لتبادل المعرفة، تسمى ShareNet ، من أجل نشر تكنولوجيا المعلومات بسرعة في جميع أنحاء الشركة، واستنادًا إلى خبرتها مع ShareNet، أنشأت شركة سيمنز PeopleShareNet وهو نظام يعمل كسوق افتراضي للخبراء لتسهيل إنشاء فرق متعددة الثقافات تتكون من أعضاء لديهم معرفة متخصصة وكفاءات مميزة.

يقترح مؤرخ الأعمال ألفريد تشاندلر أن الصناعات عالية التقنية يتم تعريفها من خلال "مسارات التعلم" التي تستمد فيها نقاط القوى التنظيمية من قدراتها التعليمية.

إن المعرفة الفردية في داخل المنظمة تتطور لتصبح معرفة تنظيمية، والتي تتكون من ثلاث نقاط قوة أساسية: المهارات التقنية -خاصة في مجال البحث-، والمعرفة الوظيفية -مثل الإنتاج والتسويق-، والخبرة الإدارية. وستؤدي هذه المعرفة بدورها إلى أعمال جديدة تمكن الشركة من النجاح وخلق حاجز أمام المنافسين الجدد. ويشير تشاندلر إلى أنه وبمجرد قيام الشركة ببناء قاعدة التعلم الخاصة بها ووصولها من خلال ذلك إلى النقطة التي تصبح فيها شركة أساسية في صناعتها، سيصبح من النادر أن تتمكن شركات ناشئة ريادية من دخول هذه الصناعة بنجاح. وعليه ستكون المعرفة التنظيمية ميزة تنافسية.

بالنسبة لقطاع معني بتقديم خدمات الرعاية الصحية فمن الممكن أن يقوم أفراد هذا القطاع بتحويل معرفتهم إلى إجراءات،ثم يتم تقييم هذه الإجراءات بالاستناد إلى الممارسات القائمة على الأدلة المرتبطة بالإرشادات المعاصرة.

نعم قد تستغرق عملية التعلم في قطاع الرعاية الصحية وقتًا طويلاً؛ لكنه وفي النهاية سيوفر الطريقة الدقيقة للتعامل مع الأزمات الطبية.

إن دور الإدارة الإستراتيجية ضروري في هكذا منظمات لتجنب الركود من خلال الفحص الذاتي المستمر والتجربة. وهنا سيشارك الجميع-ليس فقط الإدارة العليا - وبغض النظر عن مستوياتهم، مما سيساعد على مسح البيئة بحثًا عن المعلومات الهامة، واقتراح تغييرات على الاستراتيجيات والبرامج للاستفادة من التحولات البيئية، والعمل مع الآخرين لتحسين أساليب العمل وإجراءاته وتقنياته باستمرار.

طورت شركة Motorola –كمثال- تنسيقًا للتعلم الإجرائي يلتقي فيه الأشخاص من: التسويق، وتطوير المنتجات، والتصنيع، للمناقشة والتوصل إلى اتفاق حول احتياجات السوق، وأفضل منتج جديد، والجداول الزمنية لكل مجموعة تنتجها. ليقوم هذا النهج بالتغلب على المشكلات التي نشأت سابقًا عندما اجتمعت الأقسام الثلاثة ووافقت رسميًا على الخطط التي وضعت لهم، ولكنها استمرت في عملها كما لو لم يحدث شيء.

في القطاع الصحي –وكثرة استشهادي به كونه القطاع الذي أعمل فيه – فعلى المستشفيات ومؤسسات الرعاية الصحية أن تلتزم بالبيئة المتغيرة باستمرار وأن تكون متكيفة مع ممارسات التعلم من خلال اعتماد الخطوات والمكونات الأخرى للتعلم التنظيمي، إذ يمكن لمؤسسات الرعاية الصحية تحويل نفسها إلى منظمات تعليمية وصولا إلى تقوية نظام الرعاية الصحية العام في البلاد في نهاية المطاف.

في خضم عام ٢٠٢٢ وكخطوة في المسار الصحيح قامت وزارة الصحة الأردنية بزيادة أعداد المقبولين في برامج الإقامة والتخصصات الفرعية والابتعاث داخليا بنحو 20%. كما قامت بعقد الشراكات ما بين المشتشفيات التعليمية والجامعات والقطاع الخاص. وتم اعتماد دورات BLS, ACLS من AHA.
واعتماد خمس تخصصات فرعية من خلال المجلس الطبي والسير باعتماد ثلاثة أخرى. كما وقامت ببناء قدرات الكوادر في المجالات الضرورية مثل القيادة، والحوكمة، والتخطيط ،وإدارة البيانات. وعقدت شراكات مع الخدمات الطبية الملكية، والجامعات، ومجلس اعتماد المؤسسات الصحية، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، وشراء خدمات الطاقات البشرية المتميزة في تقديم الرعاية الصحية.
هذا وغيره يؤكد على أن نظام الرعاية الصحية في الأردن يسير في الاتجاه الصحيح ليكون قطاعا متعلما بامتياز.

تشير الأبحاث إلى أن إشراك المزيد من الأشخاص في العملية الإستراتيجية لا يؤدي –فحسب- إلى رؤية الأشخاص للعملية بشكل أكثر إيجابية، بل يؤدي –أيضًا- إلى التصرف بطرق تجعل العملية أكثر فاعلية.

لا نستطيع أن ننكر أنه وأثناء الأزمات تكون إدارة المعرفة معقدة، وفي العادة وفي هكذا ظروف يتم أخذ عدد قليل من الموظفين المهمين في لجنة رسمية لتسريع العملية، ووضع الطرق الأقل خطورة. ففي أثناء التعامل مع COVID-19 كان تأسيس البروتوكولات الصحية، وضمان فعاليتها، وكذلك الكشف عن الممارسة بين المتخصصين في الرعاية الصحية هدفًا رئيسيًا.

في الأردن مثلا تم إصدار التعليمات بالحظر والتباعد الاجتماعي والتي كانت مبنية على نظام التعلم الدولي والتي كان معظمها من منظمة الصحة العالمية (WHO)، ومع ذلك فإن وزارة الصحة في الأردن اتخذت خطوات فعالة لمنع انتشار الفيروس وطريقة التعامل معه. واستطاعت اختيار الأنسب لمجتمعها في قرار تعميم الحظر أو جعله جزئيا أو حتى إلغائه مستفيدة من تجاربها ومن تجارب الدول المجاورة لها. ونتيجة لبعض الأحداث طورت من طريقة تعاملها مع الحدث بدءا من إنشاء المستشفيات الميدانية، مرورا بالتحديث والتطوير الذي طال هذه المستشفيات خاصة في منظومة تزويد الأكسجين فيها، وانتهاء بوضع الخطط الاستراتيجية البديلة للتعامل مع مشكلة توقف سلسلة التوريد للأدوية ومادة الأكسجين الطبي.

إن المنظمات التي ترغب في التجربة وقادرة على التعلم من تجاربها تكون أكثر نجاحًا من تلك التي ليست كذلك . فعلى سبيل المثال ، وفي دراسة لمصنعي معدات التصوير التشخيصي في الولايات المتحدة، كانت الشركات الأكثر نجاحًا هي تلك التي حسنت المنتجات المباعة في الولايات المتحدة من خلال دمج بعض ما تعلموه من خبراتهم في التصنيع والمبيعات في الدول الأخرى. في حين وجدت الدراسة أن الشركات الأقل نجاحًا استخدمت العمليات الأجنبية كمنافذ بيع في المقام الأول، وليس كمصادر مهمة للمعرفة التقنية. كما يكشف البحث أيضًا أن الشركات متعددة الأقسام التي تنشئ طرقًا لنقل المعرفة عبر الأقسام هي أكثر ابتكارًا من الشركات المتنوعة الأخرى التي لا تفعل ذلك.

الحديث ذو شجون وله بقية .. دمتم بخير