ما تعلمته من الأستاذ محمود الشريف
أخبار البلد- بعد يومين من عودتي إلى الشارقة هاتفني الأستاذ سيف وقال بطريقته المهذبة «الأستاذ محمود قال لي أعطوه لأبو باسل اللي بده ياه». يعني الراتب الذي طلبته. و لم أكن طماعاً أو أريد أن أبني قصراً منه بل لأعلم أولادي الخمسة، خاصة أنه كان يعادل ثلث الراتب الذي كنت أتقاضاه في جريدة «الخليج».
قال لي الأستاذ سيف : سأرسل لك العقد، عبر الفاكس طبعاً فلم يكن وقتها ايميل ولا واتس ولا أي من أخواتهما. ولك الحرية أن تعدل فيه ما تريد وترسله لي لنتفق. وجدت في بند الوظيفة في العقد مسمى «نائب رئيس التحرير». توقفت عند المسمى. فعندما تعلمت الصحافة منتصف السبعينات في الكويت كان ثمة مدرستان : الشامية اللبنانية والمصرية. الأولى تمثلها «النهار» وعميدها غسان تويني وكتابها الأساتذة ميشيل ابو جودة وأنسي الحاج و سمير عطاالله – الذي قُدر لي أن أتزامل معه لاحقاً في «الأنباء» الكويتية، وغيرهم. و«السفير» وعميدها الأستاذ طلال سلمان وكتابها البارزون. وقد تعلمت من كل هؤلاء القامات أسس الصحافة و الكتابة وجماليات اللغة.
في تلك الفترة نيسان 1975 كانت الحرب اللبنانية قد اشتعلت وشتت ودمرت واستمرت 15 عاماً. تشتت أغلب أساتذة الصحافة وكان للكويت النصيب الأكبر منهم، وأسسوا ما أسميه المدرسة الكويتية في الصحافة وضمت صحفيين عربا سبقوهم الى الكويت أهمهم أستاذي ومعلمي خالد قطمة الذي أسس جريدتي «الوطن» ثم «الأنباء» التي دخلت عالم الصحافة من بابها بعد أشهر من صدورها العام 1976 كمترجم ومحرر. ولي عودة الى تلك المرحلة.
شو حكاية «نائب أو مساعد رئيس التحرير»؟
لم يكن هذا المسمى موجوداً في زمننا. فالهيكل الوظيفي يتضمن : رئيس التحرير ويكون عادة من أهل البلد، مدير التحرير وهو الأساس في العمل، سكرتير التحرير وترتيبه الثالث ويشرف على رؤساء، وليس مدراء الأقسام. فمسمى «مدير» كانت تقتصر على مسؤولي الادارات وهي : التحرير، الاعلان، المطبعة والتوزيع. والادارة تتفرع الى أقسام يرأس كلا منها رئيس قسم.
عدَّلت في العقد وأخبرت الأستاذ سيف انني أرغب في أن يكون المسمى «مدير التحرير العام» على أن لا يكون هناك مسمى آخر بينه وبين رئيس التحرير. وهذا ما كان.
التحقت بأسرة «الدستور» التي كان رئيس مجلس ادارتها المرحوم الاستاذ كامل الشريف ونائب الرئيس المرحوم الاستاذ حسن التل ورئيس التحرير المرحوم د. نبيل الشريف، أما رئيس التحرير المسؤول وروحها ومعلمها فكان المرحوم الأستاذ محمود الشريف. رجل جاد مهني صاحب مبادئ، قاسٍ حين يتطلب الأمر القسوة و لين محترم في المواقف التي تطلب اللين و..لا يخشى في الحق والدقة لومة لائم.
أول ما فعله الأستاذ محمود بعد أن رحب بي أنه دعا الى اجتماع ضم قيادات التحرير في الجريدة من رؤساء أقسام ونوابهم. ما علق في ذهني وساعدني في مهمتي مما قاله للزملاء حرفياً :«الأخ رشاد مهني مخضرم عمل في عدة صحف خليجية، وهو الآن ساعدي الأيمن وأريد منكم التعاون معه».
كان يتعامل معي على هذا الأساس وكنت أتعامل معه بكل تقدير واحترام يليق بأب جليل ومهني كبير. عندما كان يدخل الى مكتبي كنت أقف احتراماً وأطلب منه أن يجلس مكاني، كما وجدتُ العادة هنا، لكنه كان يصر أن أظل مكاني ويجلس هو على احد الكرسيين أمام المكتب. وهكذا كان يفعل المرحوم د. نبيل، فالعادات الحسنة تتوارث جيلاً بعد جيل.
أهم ما تعلمت من الأستاذ محمود الشريف الدقة والمصداقية. فكثيراً ما كان يتصل بي قائلاً بعد صباح الخير: يا ابو باسل، افتح الجريدة صفحة – ويحدد رقمها – العمود كذا، ويحدد خبراً صغيراً – ويطلب مني ان أقرأ الخبر فاجد خطأ في التحرير، اصمت خجلاً. يقول معقول يا أبو باسل هذا الخطأ ؟؟ نادي المحرر وأفهمه خطأه وحذره من اجراء قاس اذا كرره.
كان عمري آنذاك 48 سنة. وكان من الزملاء من يكبرني سناً. وطبعاً لم تخل السنة الأولى من مناكفات ومطبات وفخاخ نصبها لي البعض. لكن كان مبدأي «لا تعر اهتماماً لما يقال بل افعل ما سيقال عنك». الصحافة ان تعاملت معها كوظيفة ستظل موظفاً، ربما تأتيك ترقيات لكن لن تصبح صحفياً أو كاتباً. ادخل الى الجريدة ولا تحسب متى ستخرج، ارمِ ساعتك ولتكن ساعتك عندما تنهي عملك وتراجعه كمدير تحرير حتى يخرج أول عدد من المطبعة، تتصفحه وتراجعه وتطمئن أنك أوصلت العروس الى عريسها القارىء بأحسن حال!
وتلك حكاية أخرى....