تحليل جيّد واستنتاج خاطئ

أخبار البلد- 

كتبت قبل ثلاثة عقود وبضع سنين: كلّما شاهدت ايهود باراك يتحدّث من على شاشة التّلفاز، أو كلّما سمعته في الإذاعة، أو كلّما قرأت مقالا له في الصّحف قلت: "هذا الرّجل يجيد التّحليل ويخطئ في الاستنتاج" ولن أقول هذا الجنرال ذكيّ في التّحليل غبيّ في النّتيجة، فالرّجل لفت في مطلع شبابه بذكائه الخارق نظر الأديب عاموس عوز وتوقّع له أن يكون رئيس حكومة إسرائيل في المستقبل، وهذا ما كان.

أطلق الفاشيّ يغئال عمير ثلاث رصاصات على عملية السّلام وابتسم ابتسامته الصّفراء الشّهيرة وهو يرى إسحاق رابين قتيلا، وترك عمير الميدان للسّيّدين ايهود باراك وبنيامين نتنياهو لينجزا ما تبقّى من الرّسالة السّياسيّة.

ايهود باراك اليوم أحد قادة الحراك الشّعبيّ ضدّ حكومة نتنياهو اليمينيّة التي تقود الانقلاب القضائيّ ولأنّ باراك يريد دولة إسرائيل ديموقراطيّة، طبعا لليهود فقط، فهو يؤمن بأنّ احتلال الأراضي الفلسطينيّة والأبرتهايد ضروريّان لبقاء إسرائيل دولة ديموقراطيّة قويّة عسكريّا واقتصاديّا.

حقّق الجنرال باراك في حياته العسكريّة العريضة إنجازات كبيرة في بيروت وتونس وغيرهما من العواصم العربيّة والإفريقيّة والغربيّة قد ينساها التّاريخ والمؤرّخون وقد يتفاخر بها الجنرال ذات يوم اذا اقتضت الحاجة، كما فعل تلميذه غانتس، إلاّ أنّ تاريخ الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ لن ينسى "اكتشافه" الخطير المسجّل على اسمه "لا يوجد شريك فلسطينيّ" هذا الإكتشاف الذي كان رصاصة الرّحمة على عمليّة الحلّ السّلميّ وعلى اتّفاق أوسلو والذي يُرسّخ ديمومة الصّراع وديمومة الحرب.

قال باراك "لا يوجد شريك فلسطينيّ" لأنّه يؤمن بأنّه لا يوجد احتلال ويعتقد أنّ فلسطين "التي يسمّيها أرض إسرائيل" من البحر الى النّهر، وربّما أبعد من ذلك، ملك لشعب إسرائيل وحده لذلك صرّح في التّلفاز الإسرائيليّ مباشرةً بعد العمليّة العسكريّة على جنين ومخيّمها بأنّ هذه الحرب التي يدعمها هي على بقاء المستوطنات وعلى بقاء كيدوميم، وهو يعي أنّ كيدوميم وأخواتها مستوطنات غير قانونيّة ووجودها عدوانيّ وغير أخلاقيّ ويضرّ بمستقبل الشّعبين.

يستشهد باراك في دفاعه عن العصيان المدنيّ الذي يدعو إليه بالزّعيميّن غاندي ومانديلا وغيرهما ولا يدرك مهندس الاحتلال والإستيطان، المتنكّر لوجود الشّعب الفلسطينيّ أنّ غاندي ومانديلا وكلّ أحرار العالم بريئون من آرائه ومواقفه فلا ديموقراطيّة مع الاحتلال ولا ديموقراطيّة مع الأبرتهايد.

شاهدت قبل أيّام على شاشة التّلفاز الإسرائيليّ سيّدة يهوديّة اسرائيليّة في الأربعينات من عمرها تصرخ بوجع بعد عمليّة فلسطينيّة أودت بحياة أناس إسرائيليّين: لماذا يكرهوننا الى هذه الدّرجة؟

لو كانت هذه السّيّدة من جنين أو الخليل أو نابلس أو من الدّهيشة أو من بلاطة لكان والداها قد تزوّجا في ظلّ الاحتلال، وأنجباها في ليل الاحتلال وعاشت طفولتها ومراهقتها بين بنادق الاحتلال، ودرست في جامعة فلسطينيّة يحاصرها الاحتلال، وأحبّت وتزوّجت في ليل الاحتلال، وعرفت الحواجز واقتحام الجنود الليليّ لبيتها وربّما مقتل ابنها أو أخيها أو جارها وهو في سنوات العشرين من عمره، ولكانت قد ذاقت المرّ والوجع من تصرّفات المستوطنين الوحشيّة ومن اعتداءاتهم على أشجار والدها وزيتونه ومزروعاته وحرقهم لسيّارته أو حانوته وسمعت وزيرا يدعو إلى محو بلدتها من على وجه الأرض، وعندئذ سوف تسأل هذه السّيّدة ايهود باراك عن الشّريك الفلسطينيّ فعسى أن يدرك الجواب ويعرف أنّ الطائرة والصّاروخ والدّبّابة والمجنزرة لن تجلب السّلم والأمن للإسرائيليّين.

يدور الصّراع في هذه الأيّام بين معسكر الحكومة وبين معسكر المعارضة حادّا قويّا وهو يبدو في ظاهره صراع حول الإنقلاب القضائيّ أمّا في جوهره فهو صراع على الاحتلال.

كيف يريد نتنياهو وبن غفير وسموطرتش أن يستمرّ الاحتلال إلى الأبد؟ وكيف يريد باراك وغانتس ولبيد أن يستمرّ الاحتلال إلى ما شاء المستعمرون الجدد.

هذا الصّراع لن يكون حقيقيّا إلاّ إذا كان يدور حول انهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة بجوار إسرائيل وعاصمتها القدس الشّريف.