العصفورة إذ قالت..

أخبار البلد- من منّا لم يتقدم بنفسه أو من يعرف -حبا وكرامة- باعتراف كامل وإقرار تام لـ «ست الحبايب» حتى قبل أن تواجهه بالأدلة. كلمة السر، الكلمة المفتاحية كانت دائما «العصفورة»! نظرة واحدة من الأم على «الفيس» على وجه صغيرها -صغر أو كبر- كفيلة بالوصول إلى الحقيقة الكاملة ولا شيء غيرها.
لم تكن حينها فضائيات ولا منصات، ولا «تويتر» ولا ما يحزنون. لم يكن العالم حينها قد اكتشف -وقد كان حقا اكتشافا طبيا- «الإيهام بالغرق» ووسائل أخرى فيما يعرف بأدوات «التحقيق المطوّر» بمعنى التحقيق بالغ الفعالية في انتزاع اعتراف، تبيّن فيما بعد ألا قيمة له على الإطلاق. لا قيمة قضائية ولا حتى أمنية «معلوماتية» له، وكثيرا ما يأتي بعواقب وخيمة، كما أكدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بدء الحرب العالمية على الإرهاب أو «التطرف العنيف»، المصطلح الذي صاغته الخارجية الأمريكية وتم اعتماده عالميا منذ قيام التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي، ومن لف لفه من عصابات الأشرار.
طبعا لم تكن الأم، أي أم لتجبر فلذة كبدها على الشهادة على نفسه أو إدانة نفسه بنفسه، لكنه الحرص على المتابعة الدقيقة والرعاية الحثيثة من قبل الوالدين غالبا ما كانت تبدأ بالوسائل الناعمة وتكتفي بنظرة يتبعها سؤال ينتهي بنبرة وعيد بالمواجهة بعد عبارة: العصفورة قالت..
كان الأمر يترك -بعبقرية الأمهات وحنوّ الوالدين المتضافرين في تعاضدهما- يترك لهنّ لحث الأبناء على الفضفضة وجها لوجه لا التراسل النصي أو الرسائل الصوتية المسجّلة عبر بريد اللوح الذكي، فـ «العيون مغارف الحكي»..
كثير من تحدياتنا، مشاكلنا ومعضلاتنا كان بالإمكان حلها لو تمكنت تلك «العصفورة» من إيهام ذلك الوجه الغض ليس بالغرق وإنما بالإنقاذ من خلال النفاذ إلى أغوار نفسية أطفالنا وهم أغصان نضرة قبل يباس يستعصي التقويم ويتأخر كثيرا عن الكسر أو البتر، بمعنى التقليم والبرعمة..
في السنوات القليلة الماضية، تشكلت ظاهرة صحية اعتبرها صحوة واعدة على الصعيد الإنساني والأممي، تمثلت بمبادرة آباء وأمهات لاقتحام العالم الافتراضي ومحاولة استدراك ما فات، فتشكلت ظاهرة عبر منصات عدة أهمها التي تشهد إقبالا «شبابيا» كسناب تشات الذي صار باهتا أو توارى عن الأنظار، وإنستغرام وتك توك (وهذا الأخير تتعالى الأصوات الداعية عالميا لحظره). تعرف تلك الظاهرة التي تأخرت كثيرا ومازال زخمها قليلا، بالتربية الأسرية الإلكترونية المعروفة اختصارا بـ «إي بارينتينغ».
يغفل كثيرون رفض «الوعظ والإرشاد» المباشر أو التقليدي من قبل اليافعين والمراهقين والشباب المعتد بعنفوانه. وفيما ينصت أحبتنا إلى أقرانهم ويستمعون إلى نجوم المجتمع بحسب تصورهم لعالم الشهرة والنفوذ، لا يتحرجون من إظهار الرفض الصريح أو الضمني عبر ما يشبه «صمّ الآذان» والاستماع الظاهري بتململ لا يخلو من التأفّف..
ليت خبراء علم النفس التربوي والإعلام المجتمعي يطلون علينا -بزخم أقوى- عبر الشاشات التقليدية والألواح الذكية، فتثقف الكبار قبل أن تعلّم الصغار، بضرورة إبقاء قناة الاتصال والتواصل مفتوحة أفقيا وعموديا، بمعنى عبر الأسرة ومن خلالها المجتمع وأعمدة الدولة وأذرعها. تواصل صار بحاجة إلى أن يكون أكثر واقعية وأحدّ ذكاء وإن لزم الأمر أشد حيلة (بمعنى الدهاء) لمواجهة بلاوي العالم الافتراضي بشبكاته العنكبوتية، وحبائل مالكيه الشيطانية..
لسنا بحاجة كمعنيين بشؤون الأسرة وحال المجتمع إلى «عصفورة» تخبرنا بالرسائل الحقيقية التي تضج بها هذه المنصات أو تلك الفضيات. فكل شيء صار على بعد «كليك» ضغطة زر، لا بل لمسة شاشة، بما في ذلك السموم القادمة من وراء الحدود ووراء البحار. كل شيء تشمل أيضا ما يعرف بعبودية القرن الواحد والعشرين، وهو رق أكثر توحشا من ذلك الذي اعتقدت البشرية بأنه صار جزءًا من تاريخها الغابر الأغبر..
من شهد فيلم «صوت الحرية» رائعة جيم كافيزيل، بطل فيلم المخرج والنجم ميل غيبسون «آلام المسيح»، يدرك مدى محورية دور الأسرة كخط دفاع أول وأخير عن المقدسات كلها.. فبورك هذا التحالف القائم اليوم لاقتناص تجار الموت، أنّا كانوا وكيفما ومتى أردنا..