الحراك الفرنسي ... تمرّد أم ثورة؟
أخبار البلد-
لا يمكن تفسير كل ما يقع اليوم في فرنسا بسبب حادثة مقتل الشاب الفرنسي نائل المرزوقي (17 سنة)... وتكشف معاينة أجواء الحرائق والمظاهرات والنهب الذي تعرّضت له بعض المحلات التجارية، وما لحق إداراتٍ ومؤسّساتٍ كثيرة من تخريب وفوضى في مدن فرنسية عديدة، أننا أمام حركة احتجاج تُتَمّم المعارك السياسية المتواصلة في فرنسا منذ شهرين، احتجاجاً ورفضاً لمشروع قانون التقاعد الجديد. فضلاً عن ذلك، تعود في قلب أحداث العنف الجارية والمتواصلة بعض شعارات أصحاب السترات الصفراء، الذين واجهوا خيارات ماكرون وحزبه ومواقفهما، منذ عهدته الأولى، وتواصلت احتجاجاتهم بعد عهدته الثانية
منذ ما يزيد عن أسبوع، لم تتوقّف التظاهرات والاحتجاجات، في باريس ومارسيليا ومونبلييه وليون وبوردو وتولوز وغرونوبل وليل... بدأ الحراك يوم الثلاثاء 27 يونيو/ حزيران في نانتير في ضواحي باريس، بعد قتل شرطي مرور الفتى بمبرّر عدم امتثاله لمطالبه. واتسعت مظاهره بعد ذلك، وترتّب عنها إحراق متاجر وحافلات وسيارات، وعشرات الجرحى والمتضرّرين من جرّاء أجواء الحراك المتوالية والمتصاعدة، وأجواء من الخوف والرعب والحزن على كل ما حصل، وعلى ما آلت إليه الأوضاع في مجتمع ديمقراطي، ركَّب في تاريخه الحديث قيم الثورة الفرنسية، وساهم مفكّروه وفلاسفته في بناء جوانب هامة من المرجعية الفكرية لثقافة الأنوار وحقوق الإنسان. كما ساهمت تجاربه السياسية في رسم المعالم الكبرى للديمقراطية الفرنسية التي تُعَدُّ اليوم من بين أعرق الديمقراطيات في العالم، فكراً ومؤسّسات
يعرف المتابعون للتحوّلات السياسية في المجتمع الفرنسي في السنوات الأخيرة، زمن رئاسة ماكرون، وهي الفترة التي تزامنت مع انتشار وباء كورونا، وتلتها الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة، بكل ما حملته من استقطاباتٍ ومعارك في أوروبا وفي مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى مواقف ماكرون من أميركا ومن روسيا وأفريقيا، ومواقفه من الاتحاد الأوروبي، يعرفون انخراطه المتأرجح في ملفات دولية عديدة معقدة، وأغلبها مرتبط بتاريخه مع مستعمراته، وتاريخه مع حلفائه، ومختلف التحوّلات التي طرأت على النظام السياسي الفرنسي في السنوات الأخيرة... وهي تحوّلات ترتبط، في جوانب منها، بمتغيّرات ذات صلة بالنظام العالمي. وقد انطلقت عمليات إعادة بناء قواعده منذ نهاية القرن الماضي
نوعٌ من الهروب من كل ما يعرفه المجتمع الفرنسي اليوم من حراك سياسي ومن تحوّلات
نقول يعرف المتابعون لكل المشار إليه أعلاه بصورة مكثفة أن الحوادث المشتعلة اليوم في الحواضر الفرنسية الكبرى تمتلك صلات من الوصل مع جوانب من كل ما جرى ذكره، حيث لا يمكن عزلها عنه والاكتفاء بالنظر إليها بمجهر السببية المباشرة. ففي السياسة والتاريخ، وفي أزمنة الحراك السياسي، ترتبط الأحداث وتتقاطع، وهي تستدعي بعضها بعضاً بآلياتٍ مُركَّبة ومعقّدة. وضمن هذا السياق، ندرك ردود فعل اليمين الفرنسي المتطرّف منه والمعتدل، اليمين الذي لم يكتف بتحويل سياسات ماكرون نحو موضوع أسئلة الهجرة والهوية، بل سعى إلى تحويل الوعي السياسي الفرنسي برمته نحو خطابات متناقضة مع كل ما بناه الفكر الفرنسي الحديث والمعاصر، في موضوع الأنوار وحقوق الإنسان، وأخلاق التسامح والتقدّم... فقد أصبح أغلب أطياف المشهد السياسي الفرنسي اليوم يتحدث لغة إيريك زمور وميشيل ويلبك، لغة العنصرية المستفزّة، التي تحرص على ربط كل مشكلات المجتمع الفرنسي السياسية والاقتصادية بمشكلات المهاجرين من ساكنة ضواحي المدن. وهذا الموقف بالذات يجعلنا نقف اليوم ونحن نعاين مخاضات المجتمع الفرنسي أمام معارك سياسية كبرى
تتجه ردود فعل بعض أعضاء حكومة ماكرون إلى النظر إلى ما يجري بكل مظاهر العنف التي تملأه، بمختلف صور تصعيده المتوالية، باعتبارها أفعالاً وراءها قاصرون، وتوجّه فيها اللوم كما توجه التهم إلى الآباء الذين يسمحون لأطفالهم بالخروج والمشاركة في التظاهر والتخريب والشّغب .. وعندما نسمع تشخيصاتٍ مماثلة، لأسبوع متواصل من العنف والحرائق، نتبين أن وراء ما ذكرنا نوعٌ من الهروب من كل ما يعرفه المجتمع الفرنسي اليوم من حراك سياسي ومن تحوّلات نتصوّر أنه سيكون لها ما بعدها في بنية النظام السياسي القائم، وفي بنية القِيَم المُؤسِّسة له والمرتبطة به، وخصوصا الموقف من النظام ومن الدولة .. ومن الأمور الملفتة للنظر أن يصدر بموازاة المعارك القائمة بيان لنقابة الشرطة، يتحدّث عن حربٍ أهلية، ويتمم مواقف بعض أعضاء الحكومة، الذين اعتبروا أن الحراك المشتعل يقوم به الأطفال، ويستخدمون في عمليات تطويره وسائل التواصل الاجتماعي. فلا أحد من المسؤولين يريد رؤية ما يحصل منذ أسبوع في مدن فرنسية كثيرة من تَمَرُّد وعِصيان مدنيين
تزايد عدد الموقوفين، وارتفاع عدد الجرحى من رجال الأمن والدرك ومن المتظاهرين، يبرز خطورة استمرار تصعيد الأوضاع
يتساءل بعضهم هل تتجه الأوضاع في فرنسا نحو تطبيق قانون حالة الطوارئ؟ إن تزايد عدد الموقوفين، وارتفاع عدد الجرحى من رجال الأمن والدرك ومن المتظاهرين، يبرز خطورة استمرار تصعيد الأوضاع. ونتصوّر أن توجيه الحوار والنقاش نحو إشكالات الراهن الفرنسي في الاقتصاد والسياسة والديمقراطية والعدالة يمكن أن يساهم في محاصرة بعض أوجه الجدل الدائر بلغة الهوية والنقاء الهوياتي، كما يمكن أن يقرّبنا من الديمقراطية، التي تمتلك القدرة على محاصرة بعض ما يفرزه تاريخها ومجتمعها من تحوّلات مرتبطة، بكثير من أوجه التحوّل التي يعرفها العالم، وما ترتب ويترتب عن كل ذلك من تزايد في التفاوت الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع
لم نعثر في ردود فعل الحكومة، وردود فعل خلية الأزمة برئاسة رئيس الجمهورية، على علاقة الحراك القائم بالأزمة الاقتصادية وبالتضخّم، أو علاقته بمشروع قانون رفع سن التقاعد، فالحراك المتصاعد، في تقديرهم، شغبٌ وتمرّدٌ وحرائق وسرقات يقوم بها الصغار، إنه بداية حرب أهلية. أما ردود الفعل التي أعلن عنها اليمين الأوروبي فقد أجمعت بدورها على أن ما يجري اليوم في فرنسا يرتبط بمشكلات الهجرة والمهاجرين. كما يرتبط ببعض مواقف اليسار التي تستخف بمتاعب كثيرة يفجّرها المهاجرون في الحواضر الأوروبية. ويُظْهِر تطوّر الأحداث والاضطرابات المتواصلة أن المجتمع الفرنسي اليوم منقسم، وأن النظام السياسي القائم لم ينجح في بناء مواجهة قادرة على وقف الحراك المتواصل، بل ساهم في توليد معطيات متناقضة سيكون لها ما بعدها
منذ ما يزيد عن أسبوع، لم تتوقّف التظاهرات والاحتجاجات، في باريس ومارسيليا ومونبلييه وليون وبوردو وتولوز وغرونوبل وليل... بدأ الحراك يوم الثلاثاء 27 يونيو/ حزيران في نانتير في ضواحي باريس، بعد قتل شرطي مرور الفتى بمبرّر عدم امتثاله لمطالبه. واتسعت مظاهره بعد ذلك، وترتّب عنها إحراق متاجر وحافلات وسيارات، وعشرات الجرحى والمتضرّرين من جرّاء أجواء الحراك المتوالية والمتصاعدة، وأجواء من الخوف والرعب والحزن على كل ما حصل، وعلى ما آلت إليه الأوضاع في مجتمع ديمقراطي، ركَّب في تاريخه الحديث قيم الثورة الفرنسية، وساهم مفكّروه وفلاسفته في بناء جوانب هامة من المرجعية الفكرية لثقافة الأنوار وحقوق الإنسان. كما ساهمت تجاربه السياسية في رسم المعالم الكبرى للديمقراطية الفرنسية التي تُعَدُّ اليوم من بين أعرق الديمقراطيات في العالم، فكراً ومؤسّسات
يعرف المتابعون للتحوّلات السياسية في المجتمع الفرنسي في السنوات الأخيرة، زمن رئاسة ماكرون، وهي الفترة التي تزامنت مع انتشار وباء كورونا، وتلتها الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة، بكل ما حملته من استقطاباتٍ ومعارك في أوروبا وفي مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى مواقف ماكرون من أميركا ومن روسيا وأفريقيا، ومواقفه من الاتحاد الأوروبي، يعرفون انخراطه المتأرجح في ملفات دولية عديدة معقدة، وأغلبها مرتبط بتاريخه مع مستعمراته، وتاريخه مع حلفائه، ومختلف التحوّلات التي طرأت على النظام السياسي الفرنسي في السنوات الأخيرة... وهي تحوّلات ترتبط، في جوانب منها، بمتغيّرات ذات صلة بالنظام العالمي. وقد انطلقت عمليات إعادة بناء قواعده منذ نهاية القرن الماضي
نوعٌ من الهروب من كل ما يعرفه المجتمع الفرنسي اليوم من حراك سياسي ومن تحوّلات
نقول يعرف المتابعون لكل المشار إليه أعلاه بصورة مكثفة أن الحوادث المشتعلة اليوم في الحواضر الفرنسية الكبرى تمتلك صلات من الوصل مع جوانب من كل ما جرى ذكره، حيث لا يمكن عزلها عنه والاكتفاء بالنظر إليها بمجهر السببية المباشرة. ففي السياسة والتاريخ، وفي أزمنة الحراك السياسي، ترتبط الأحداث وتتقاطع، وهي تستدعي بعضها بعضاً بآلياتٍ مُركَّبة ومعقّدة. وضمن هذا السياق، ندرك ردود فعل اليمين الفرنسي المتطرّف منه والمعتدل، اليمين الذي لم يكتف بتحويل سياسات ماكرون نحو موضوع أسئلة الهجرة والهوية، بل سعى إلى تحويل الوعي السياسي الفرنسي برمته نحو خطابات متناقضة مع كل ما بناه الفكر الفرنسي الحديث والمعاصر، في موضوع الأنوار وحقوق الإنسان، وأخلاق التسامح والتقدّم... فقد أصبح أغلب أطياف المشهد السياسي الفرنسي اليوم يتحدث لغة إيريك زمور وميشيل ويلبك، لغة العنصرية المستفزّة، التي تحرص على ربط كل مشكلات المجتمع الفرنسي السياسية والاقتصادية بمشكلات المهاجرين من ساكنة ضواحي المدن. وهذا الموقف بالذات يجعلنا نقف اليوم ونحن نعاين مخاضات المجتمع الفرنسي أمام معارك سياسية كبرى
تتجه ردود فعل بعض أعضاء حكومة ماكرون إلى النظر إلى ما يجري بكل مظاهر العنف التي تملأه، بمختلف صور تصعيده المتوالية، باعتبارها أفعالاً وراءها قاصرون، وتوجّه فيها اللوم كما توجه التهم إلى الآباء الذين يسمحون لأطفالهم بالخروج والمشاركة في التظاهر والتخريب والشّغب .. وعندما نسمع تشخيصاتٍ مماثلة، لأسبوع متواصل من العنف والحرائق، نتبين أن وراء ما ذكرنا نوعٌ من الهروب من كل ما يعرفه المجتمع الفرنسي اليوم من حراك سياسي ومن تحوّلات نتصوّر أنه سيكون لها ما بعدها في بنية النظام السياسي القائم، وفي بنية القِيَم المُؤسِّسة له والمرتبطة به، وخصوصا الموقف من النظام ومن الدولة .. ومن الأمور الملفتة للنظر أن يصدر بموازاة المعارك القائمة بيان لنقابة الشرطة، يتحدّث عن حربٍ أهلية، ويتمم مواقف بعض أعضاء الحكومة، الذين اعتبروا أن الحراك المشتعل يقوم به الأطفال، ويستخدمون في عمليات تطويره وسائل التواصل الاجتماعي. فلا أحد من المسؤولين يريد رؤية ما يحصل منذ أسبوع في مدن فرنسية كثيرة من تَمَرُّد وعِصيان مدنيين
تزايد عدد الموقوفين، وارتفاع عدد الجرحى من رجال الأمن والدرك ومن المتظاهرين، يبرز خطورة استمرار تصعيد الأوضاع
يتساءل بعضهم هل تتجه الأوضاع في فرنسا نحو تطبيق قانون حالة الطوارئ؟ إن تزايد عدد الموقوفين، وارتفاع عدد الجرحى من رجال الأمن والدرك ومن المتظاهرين، يبرز خطورة استمرار تصعيد الأوضاع. ونتصوّر أن توجيه الحوار والنقاش نحو إشكالات الراهن الفرنسي في الاقتصاد والسياسة والديمقراطية والعدالة يمكن أن يساهم في محاصرة بعض أوجه الجدل الدائر بلغة الهوية والنقاء الهوياتي، كما يمكن أن يقرّبنا من الديمقراطية، التي تمتلك القدرة على محاصرة بعض ما يفرزه تاريخها ومجتمعها من تحوّلات مرتبطة، بكثير من أوجه التحوّل التي يعرفها العالم، وما ترتب ويترتب عن كل ذلك من تزايد في التفاوت الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع
لم نعثر في ردود فعل الحكومة، وردود فعل خلية الأزمة برئاسة رئيس الجمهورية، على علاقة الحراك القائم بالأزمة الاقتصادية وبالتضخّم، أو علاقته بمشروع قانون رفع سن التقاعد، فالحراك المتصاعد، في تقديرهم، شغبٌ وتمرّدٌ وحرائق وسرقات يقوم بها الصغار، إنه بداية حرب أهلية. أما ردود الفعل التي أعلن عنها اليمين الأوروبي فقد أجمعت بدورها على أن ما يجري اليوم في فرنسا يرتبط بمشكلات الهجرة والمهاجرين. كما يرتبط ببعض مواقف اليسار التي تستخف بمتاعب كثيرة يفجّرها المهاجرون في الحواضر الأوروبية. ويُظْهِر تطوّر الأحداث والاضطرابات المتواصلة أن المجتمع الفرنسي اليوم منقسم، وأن النظام السياسي القائم لم ينجح في بناء مواجهة قادرة على وقف الحراك المتواصل، بل ساهم في توليد معطيات متناقضة سيكون لها ما بعدها