ماهرون بـ»تطفيش» الكفاءات الوطنية
أخبار البلد-
لا يوجد لدي إحصائيات دقيقة عن عدد الكفاءات الأردنية التي هاجرت للخارج، خاصة في مجال التعليم، المعلومات المتوفرة تشير إلى أن أعدادهم بالمئات، هؤلاء لم يخرج معظمهم بحثا عن وظيفة، او دخل أفضل، وإنما تم التضييق عليهم من مؤسساتهم، فهربوا منها مكرهين، ثم استقطبتهم مؤسسات بدول شقيقة أو صديقه، وقدمت لهم عروضا بامتيازات مغرية، لأنها قدرت فعلا ما لديهم من خبرة وكفاءة، فآثرت الاستفادة منهم.
أخشى ما أخشاه، أن يتم تعميم ظاهرة «التطفيش « على مؤسسات التعليمية ( وربما الصحية وغيرها أيضا) فنصحو ذات يوم على واقع جديد، نبحث فيه عن كفاءة أو خبرة فلا نجدها، هذا الواقع ليس افتراضيا ولا بعيدا، وإنما ثمة مؤشرات عديدة تحذرنا من اننا سنصل إليه إذا استمر بعض المسؤولين الماهرين الذين جاءوا للمواقع العليا بمحض الصدفة (لدينا منهم الكثير) بتضييق الخناق على الكفاءات التي تعمل معهم، سواء بدافع الخوف من منافستهم على مواقعهم، أو بدافع التخلص من أصواتهم الحرة التي قد تكشف أخطاءهم الإدارية، أو لأي أسباب أخرى.
آخر نسخة من عملية « التطفيش» جاءت من إحدى جامعاتنا الرسمية، فبعد مسيرة 20 عاما لاحد الأساتذة العاملين فيها، كانت حافلة بالمضايقات، حيث رفع خلالها سبع قضايا على الجامعة وأنصفه القضاء، حتى الآن، في خمسة منها، وبعده سلسلة طويلة من الاستهدافات الإدارية غير المفهومة، اضطر الرجل لقبول التوقيع على عقد مع إحدى الدول الشقيقة، بأضعاف أضعاف الامتيازات التي كان يحصل عليها في جامعته.
تصور أن احد أفضل أساتذة العلوم السياسية في الأردن، وربما الشرق الاوسط، كان يقضي معظم خدمته بالمحكمة، ولجان التحقيق، ولم يستلم أي موقع قيادي بالجامعة، على الرغم من خبرته الطويلة، ولم يتفطن أحد لتكريمه، ومع ذلك لم يتوقف عن نشر عشرات البحوث العلمية الرصينة، بأهم المجلات العالمية شهرة، ثم يخرج من جامعته وهو يقدم رجلا و يؤخر أخرى، لانه حريص على أن يصب خبراته في بلده، ولم يكن يخطر بباله أن يضطر للهجرة منه، يقسم بالله انه لو توفرت له بيئة جامعية مناسبة، ولم يتم التضييق عليه بشكل ممنهج، لبقي في جامعته، يخدم بلده بكل رضا، وراحة ضمير.
لدي نماذج أخرى لأساتذة، ومعلمين، وكفاءات إدارية وصحية، وغيرها، عملوا في مؤسساتنا الوطنية سنوات طويلة، وحاولوا أن يقدموا أفضل ما لديهم في مجال تخصصاتهم، بعضهم اصطدم بجدار « التطفيش»، فخرج وتم استقطابه من قبل مؤسسات بالخارج، وبعضهم تم الاستغناء عن خدماته، ولكنه ظله في البلد ينتظر فرصة عمل، وما يزال، هؤلاء يشعرون الآن بمزيد من القهر والأسى والوجع، جراء ما وقع عليهم من ظلم، صحيح بعضهم وجد من يقدّر خبراته بالخارج، لكنهم جميعا لم يتحرروا من الحنين لوطنهم، والغضب على من دفعهم للهروب منه، او من اهدر كفاءتهم وخبراتهم وبخل بها على بلدهم.
لو كان بيدي قرار، أي قرار، لمنعت أي خبرة اردنية، تحتاج إليها مؤسستنا، من السفر والهجرة إلى الخارج، واستثمرت بكل الكفاءات التي تم اقالتها او تعطيلها، ووفرت لهم كل ما يحتاجونه من أسباب العمل والراحة، و مناخ الإبداع والإنتاج، فهولاء يشكلون «رأسمال «وطني لا يقدر بثمن، وبدل أن نظل نشكو من تراجع التعليم والصحة وغيرهما، الحل موجود حافظوا على هذه الكفاءات والخبرات، وطنوها واستثمروا فيها، عندئذ سنتقدم في هذه المجالات، ونستقطب الأشقاء للدراسة أو الطبابة في بلادنا، بهذا نحرك عجلة الاقتصاد والتنمية، والإبداع، ونصبح نموذجا منافسا يحظى بأفضل درجات الترتيب على المؤشرات العالمية، وبأفضل سمعة علمية لابنائنا الذين يدرسون ويتخرجون من جامعاتنا، وللآخرين الذين يبحثون عن الملهمين لإخراجهم من الإحباط الذي اغرقناهم فيه.
يا ليت قومي يسمعون.