صدقت يا"ماهر ابو طير"..ولكن!

سأل أحد الصحفيين الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية جون كينيدى:هل رحلة زوجتك إلى أوروبا على نفقتك الخاصة أم من مال الدولة؟.لو أن هذا السؤال وُجِّه إلى أحد رؤساء الدول العربية لقامت الدنيا ولم تقعد، ولوصف هذا الصحفي بالحماقة والغباوة، ولربما اعتبروا سؤاله نوعًا من التطاول أو التجاوز أو أنه يمس هيبة الدولة.ولكن كل هذه "الترهات" لم تخطر ببال كينيدي، الذي أجاب الصحفي بكل بساطة وأريحية عن سؤاله، ولم تخطر كذلك ببال المستمعين عبر شاشات التلفاز, لأنهم يعلمون أن من حق أي مواطن أن يسأل رئيس دولته مثل هذا السؤال. من من لا يعرف قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقصة الحلوى التي طلبتها زوجته ولم يكن بامكانه توفيرها لها, فقامت وجمعت من مصروفها الذي وفرته واشترتها, فسألها الفاروق عن كيفية حصولها عليها, فقالت:إنني اشتريتها بما وفرته من مصروفي الذي تصرفه لي يومياً، قال عمر:ولكني لم أكن أعرف أنه يزيد وكنت أعطيك أكثر من حاجتك، رديها إلى بيت المال، فإن المسلمين أولى بهذه الزيادة. وقد عبر شاعر النيل حافظ إبراهيم عن هذه القصة شعراً في قصيدته العمرية فقال:فمن يبـاري أبا حفص وسـيرتـه **أو من يحاول للفاروق تشـبيها..يوم اشتهت زوجه الحلـوى فقال لها**من أين لي ثمن الحلوى فأشريها..ما زاد عن قـوتنا فالمسلمون به أولى** فقـومي لبيت المــال رديهـا..كذاك أخلاقـه كانت وما عهدت**بعد النّبـوة أخلاق تحاكيهــا. وفي حادثة أخرى مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يخطب الجمعة بالناس, وكان قد أتته ثياب من اليمن فوزعها على المسلمين كل مسلمٍ ثوبًا, فبدأ الخطبة وعليه ثوبان، وقال: أيها الناس:اسمعوا وعوا..فقام سلمان من وسط المسجد، وقال:والله لا نسمع ولا نطيع. فتوقف واضطرب المسجد، وقال:ما لك يا سلمان؟, قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوبًا ثوبًا ونسمع ونطيع؟, قال عمر: يا عبد الله, قم أجب سلمان, فقام عبد الله يبرر لسلمان، وقال:هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي. فبكى سلمان،وقال:الآن قُلْ نسمع، وأمر نطع, فاندفع عمر يتكلم. هذه مقدمة قمت باختيارها للرد على مقالين للكاتب والصحفي اللامع ماهر ابو طير, المقال الأول حمل عنوان:"من أين لك هذا؟", وقد نشر في شهر تشرين الثاني من العام السابق والثاني حمل عنوان:"لماذا تتهربون من قانون من أين لك هذا؟, وقد تم نشره قبل أيام قليلة خلت. وفي المقال الأول, يقول الكاتب ابو طير:"يشعر مسؤولون سابقون بالذعر الشديد هذه الايام، بعد تصريح رئيس الحكومة عون الخصاونة، حول قانون من أين لك هذا، لأن القانون في حال اقراره، سيكشف عورات كثيرين في البلد". ويختتمه قائلا:"معركة الدولة مع الفساد،تنقصها الوسائل القانونية،وتغيب الارادة السياسية لجعلها معركة حقيقية،مما اضر كثيراً بالحبل السري بين الدولة والناس،وجعل الشكوك والاسئلة والحيرة تطغى على الجميع. هذا اختبار كبير للحكومة، أمام الناس، واختبار لقدرتنا،على ان لانبقى ُننّظر على بعضنا البعض، فيما تسير الأمور بذات الطريقة. لو كانت هناك شفافية حقاً، لوصل الاستفسار الى أسماء سياسية واقتصادية واجتماعية ،جمعت مالا، لاعلاقة له بالراتب اساساً،خصوصاً،اننا في بلد صغير ونعرف الاصل المالي والاجتماعي لكل انسان في هذا البلد..لتشرب الحكومة حليب السباع ولتفتح كل الملفات المستورة في البلد". ولم تمضي فترة طويلة منذ نشر المقال حتى رأينا فتح العديد من ملفات الفساد وأصحابها قياديون بدرجات عالية جدا وكان لهم تأثيرهم الكبير في الدولة ولا داعي لذكرهم فالصحف والمواقع الالكترونية وكافة وسائل الاعلام تطرقت ولا تزال تتطرق اليهم. وفي مقاله الثاني يقول الكاتب:"غابت قصة قانون من اين لك هذا،وهو القانون الذي يطالب به اغلب الناس، بعد ان اعلن نواب في وقت سابق، انهم يريدون هذا القانون، فيما رد عليهم رئيس الحكومة محرجا النواب، بأن عليهم ان يطلبوا رسميا اصدار القانون، وستقوم الحكومة عندها بإصداره. ويختتمه قائلا ومطالبا:الحكومة مطالبة بشكل واضح باصدار قانون من اين لك هذا؟ومطالبة بوضع حد لتجاهل كثيرين لقانون ابراء الذمة المالية،وهي دعوة الى الحكومة ان لاتبقى اسيرة للمراحل في محاربة الفساد،وان تضع الاطر التشريعية الكافية والمقنعة لهذا الشعب الذي تعب من قصص الفساد ومن شعوره بأنه منهوب جهارا نهارا". وللكاتب العزيز ابو طير أقول:من أبسط حقوقنا الشرعية محاسبة المسئولين وذوي الشأن وأصحاب القرار المؤتمنين على ثرواتنا والتأكد أنها بأيد أمينة, ومن حق الشعب محاسبة ومحاكمة رؤوس الفساد الذين استحلوا ثرواتنا وخيراتنا لأنهم أمنوا العقوبة لعقود خلت. الشعب الآن مل من السكوت ويرى أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.انتهى زمن الخنوع والسكوت والذل والخوف وآن للمجرمين أن يخافوا ويقدموا للعدالة. ولبيان يقظة الشعب ورغبته في تطبيق العدل والمساواة والحصول على حقوقه المسلوبة ان الأوان لننفذ قانونا وضع قبل أكثر من أربعة عشر قرنا وهو:"من أين لك هذا", انه قانون يجب أن يطبق على الكبير قبل الصغير. عندما يكثر استغلال السلطة يبدأ الناس بالحديث بصوت عال, وهذا هو أروع ما في الديمقراطية. انه نظام مراقبة على السلطة لضمان عدم خرق للقانون والدستور والالتزام بالاخلاق, بل ان مهمة "السلطة الرابعة" هي المطالبة بمحاسبة المسؤولين على سوء استخدام السلطة والفساد, فسرقة أموال الدولة يمكن ان تحصل لأسباب عدة ويغتني بعض المسؤولين الكبار في تلك الأسباب, لابقاء الامور تحت البساط. 
نعم بدأ الناس يكثرون الكلام عن وزراء ومسؤولين بسبب حصولهم على مختلف الوكالات لأغراض الانتفاع الشخصي رغم رواتبهم ومخصصاتهم العالية, ونحن نعتبر ذلك الاسلوب نوعاً صارخاً من الفساد وسوء استخدام للسلطة والاثراء على حساب الوطن والمصلحة الوطنية العليا. والذين يعتبرون انفسهم اذكياء ينبغي عليهم ان يعرفوا أن هناك من هو أذكى منهم وأكثر فراسة وعلماً بما يحصل بمنتهى السكوت.
والقضية واضحة وضوح الشمس, وهي: أعطيك وكالة وتعطيني تسهيلات ومقاولات بأسعاري وشروطي لا بأسعار الدولة وشروطها. هذا أحد الأمثلة الكثيرة على طرق الاحتيال وسرقة اموال الدولة, وهذا السلوك ليس فقط سلوكاً شائناً وقبيحاً ومستهجناً بل انه عبارة عن جريمة ينبغي على السلطات ان تحاسب من يثبت بحقه مثل تلك الجرائم سواء كانوا وزراء أو وكلاء وزارات أو مسؤولين ومساعدين أو سماسرة ووسطاء. ينبغي التحقق من أموال الوزراء وغيرهم واتباع نهج الخليفة عمر بن الخطاب وهو: من اين لك هذا?, ولا يخفى على أحد بأن بعض الوزراء أو المسؤولين الفاسدين ينقلون الاموال والممتلكات والوكالات لحسابات زوجاتهم وأولادهم أو اقاربهم للتحايل على القانون وايهام الناس بأنهم في غاية البراءة, وهناك نوع اخر من التحايل وهو تدخل بعض زوجات المسؤولين في طبيعة عمل زوجها وتنفيذ رغبات صديقاتها واستغلال ذلك بترقية او اعطاء مناصب لأزواجهن وهم ليسوا اكفاء لهذا المنصب, حتى وصلت الأمور الى وضعهم في مراكز حساسة, وتظهر عليهم علامة البراءة بايهام الناس بأنهم في غاية البراءة بينما هم في غاية اللؤم والخبث, وطبعاً لن تنطلي تلك الحقيقة على الناس, بل اننا نذهب الى أبعد من ذلك عندما نقول ان هذا العمل الدنيء خيانة كبرى للأمانة التي اناطها رئيس الوزراء بوزرائه, كما انها خيانة للمجتمع وخزينة الدولة وسرقتها.
"ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب", فلا ينبغي فصل أولئك الوزراء او المسؤولين من مناصبهم فحسب, بل ينبغي استرجاع الأموال المسروقة ومحاكمتهم بتهمة السرقة والخيانة ليكونوا أمثولة للجميع, ولقطع دابر الفساد والسرقة والخيانة وسرقة اموال الناس والدولة.
ينبغي ايضاً محاسبة اصحاب الشركات ورجال الاعمال الذين يدقون باب الفساد وانزال عقوبات مماثلة بهم.
كان الناس في السابق يخافون الحكومات, أما اليوم فالحكومات تخاف الناس..انها ارادة الله "عز وجل", "واقتلوا قاتل الكلب". إن كثيرًا من دول العالم "المحترمة" تطبق اليوم قانون "من أين لك هذا؟" على جميع من يتولى منصبًا صغيرًا أو كبيرًا في الدولة, وذلك من أجل ضمان نظافة ونزاهة أدائهم لعملهم، ولتكون هناك شفافية في المحاسبة أمام شعوب هذه الدول، وعادة ما يفرض هذا القانون على المسئولين تقديم الذمة المالية ويُطبَّق هذا القانون أيضًا على غير المسئولين من رجال الأعمال والتجار؛ خوفًا من تنامي ثرواتهم بالطرق غير المشروعة، كغسيل الأموال أو الاتجار في المخدرات وغيرهما. إن العلاج لا يبدأ فقط بمراقبة المسئولين الحاليين أو القادمين مستقبلاً، فالأمر لا يتعلق بمؤسسة أو هيئة وإنما بخلق شعب وسلوك أمة، ورأيي أن الأمر يبدأ من البيت، من الزوجة أولاً ثم الأبناء. والى الكاتب المحترم ابو طير أقول أيضا:نحن لسنا بحاجة الى سن قانون"من أين لك هذا", انه لأمر بديهي أن يراقب الناس وبغض النظر عن مستواهم ومناصبهم وأن يخضعوا للمسائلة عن دخلهم وممتلكاتهم, فالكل يجب أن يخضع للقانون ولا يوجد أي انسان فوق القانون. نقر ونعترف بوجود كيان صهيوني احتل بل اغتصب بلادنا من بحرها الى نهرها ويطمع في أبعد من ذلك بكثير, وهو كيان"ديموقراطي" لمواطنيه فقط, وكأي كيان في العالم لا يخلو من مظاهر الفساد بانواعها المختلفة, ولكن يقوم بمحاسبة ومعاقبة من يثبت عليهم التورط في الفساد, فها هو رئيسه السابق يقبع وراء القضبان بتهمة الاغتصاب, وها هو أيضا رئيس حكومته السابق ايهود أولمرت يحاكم بسبب اتهامات وجهت له تتعلق بالفساد, وبدأ وزير العمل الأسبق في الكيان الصهيوني شلومو بن عزري، الذي ينتمي إلى حزب"شاس" الديني المتشدد، عقوبة بالسجن لمدة 4 أعوام لإدانته بتلقي رشى تقدر بملايين الشيكلات من أحد المقاولين مقابل معلومات سرية مربحة, وحكم على وزير المالية الأسبق أبراهام هيرشزون، الذي ينتمي إلى حزب"كاديما" الصهيوني، بالسجن لمدة تزيد على 5 أعوام بعد إدانته باختلاس ملايين الشيكلات من نقابة كان يترأسها, وقد تم سجن النائب عن حزب كاديما عمري شارون، نجل رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق ارييل شارون، بتهمة جمع أموال بصورة غير قانونية لوالده ، حيث جمع أكثر من القدر المسموح به من خلال تحويل الأموال إلى شركات وهمية قام بتأسيسها, وقضى شارون الابن في السجن 4 أشهر من العقوبة الصادرة بحقه وهي 7 أشهر, بدون مراعاة لظروف والده الذي لا يزال يرقد في غيبوبة منذ أكثر من ستة أعوام, وكان من أكبر جنرالات كيانهم وقدم الكثير من أجل هذا الكيان. في بلادنا بدأت ظاهرة محاسبة الفاسدين ولاحظنا في الاونة الأخيرة في الأردن ملاحقة الفاسدين من كبار رجال الدولة والسؤال الذي يطرح نفسه:هل ستتم معاقبتهم وادخالهم السجون أم ستكون محاكمات صورية ليفرج عنهم ويستمرون في فسادهم بدون حسيب أو رقيب؟..أقسم بأن ملاحقة الفاسدين ستريك العجب العجاب, ولأيقنت أننا في أمسّ الحاجة إلى هذا القانون العظيم البسيط "من أين لك هذا؟". د. صلاح عودة الله-القدس المحتلة