عولمة المعيار الذهبي بديلا لمعيار الدولرة

أخبار البلد-

 
يعد الاستقرار النقدي وضمان قابلية تحويل العملة الوطنية من أهم العوامل التي يأخذها المستثمرون بالاعتبار سواء كان الاستثمار حقيقيا أو ماليا. وقد دأبت البنوك المركزية، منذ نشأتها، على تحقيق هذا الهدف ما أمكن، من خلال المحافظة على استقرار نسبي في سعر صرف العملة الوطنية وتجنيبه التقلبات الحادة التي تتعرض لها العملات العالمية من حين لآخر.
ومع ذلك، فقد تميز عقد السبعينيات من القرن الماضي وحتى العقد الحالي بالأزمات المالية الحادة التي عصفت بالنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، وما تزال هذه الأزمات تواكب ذلك النظام وأكثر حدة من السابق حتى وقتنا الحاضر.
وبصورة عامة، وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية سيدا مطلقا في الاقتصاد العالمي، وقد تم الاتفاق بموجب مؤتمر بريتون وودز العام 1944 الذي عقد في واشنطن بحضور 44 دولة بالعدول عن قاعدة الذهب كقياس للعملة المحلية واعتماد الدولار كعملة رئيسية في الاحتياطات الدولية مع قابلية تحويل الدولار إلى ذهب مقابل 35 دولارا للأونصة الواحدة "ربط الدولار بالذهب بسعر صرف ثابت". وسميت هذه الاتفاقية باتفاقية بريتون وودز، التي تضمنت إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحقوق السحب الخاصة، علما أن حصة الدولار من حقوق السحب الخاصة 43 % واليورو 29 % واليوان 12 % وبريطانيا واليابان 8 % لكل منهما.
ومن باب التذكير، حاول العالم الاقتصادي كينز، خلال الاجتماع، اعتماد عملة تبادل دولية باسم بانكور "Bancor" تستند هذه العملة الى احتياطيات البنوك المركزية بالجنيه الاسترليني الذي كان يمثل 75 % من احتياطيات العالم من العملات الرئيسية. لكن المندوب الأميركي استطاع التصدي بقوة لاقتراح كينز وإجبار الدول المجتمعة بربط عملات الدول بالدولار الأميركي وتثبيت سعر الدولار بالذهب، وأصبح الدولار العملة الأساسية للاحتياطيات الدولية بدلا من الجنيه الاسترليني. علما أن الاتحاد السوفييتي شارك في الاجتماع ورفض التوقيع على الاتفاقية.
كذلك، وفي عهد الرئيس نيكسون العام 1971، تم بموجب اتفاقية سمثسونين الأولى SmithsonianI العدول عن ربط الدولار بسعر ثابت بالذهب باعتماد النظام المدار لسعر الصرف المعوم "managed floating exchange rate system"، وذلك بجعل سعر صرف الدولار يتذبذب صعودا وهبوطا بحدود 3.5 % مقابل الذهب، مما أدى إلى تخفيض سعر الدولار مقابل الذهب رسميا بنسبة تجاوزت 12 % العام 1972 نتيجة الضغوط التي خلفتها الحرب الفيتنامية وما أعقبها من مشاكل وأوضاع اقتصادية مضطربة.
فاضطر الرئيس نيكسون في آذار (مارس) 1973، بموجب اتفاقية سمثسونين الثانية Smithsonian II، إلى تعويم سعر صرف الدولار وتحديد قيمته حسب العرض والطلب في الأسواق العالمية باعتماد نظام سعر الصرف المعوم "floating exchange rate system"، وأصبح الدولار العملة المهيمنة عالميا، وأميركا الدولة الوحيدة القادرة على خلق عملة دون غطاء الذهب، مما أدى إلى زيادة مديونيتها لدول العالم وتحولت من دولة دائنة إلى دولة مدينة.
ولا غرابة، أن استمرار قوة الدولار لم تعكس قوة الاقتصاد الأميركي، بل عكست خللا أساسيا في اقتصادها عن طريق زيادة العجر في ميزانية الحكومة، وكذلك ميزان المدفوعات وهبوط معدلات النمو الاقتصادي الأميركي والعالمي. وهذا دليل على أن العوامل التي ساعدت على وجود دولار قوى هي العوامل نفسها التي تساعد على حدوث دولار ضعيف في المستقبل القريب. فزيادة العجز في الميزان التجاري من شأنها أن تضعف قوة الدولار، بينما زيادة العجز في الميزانية الحكومية من شأنها أن تؤدي الى رفع الفائدة، وبالتالي تقوية الدولار التي لم تعكس زيادة قوة الاقتصاد الأميركي بسبب تمويل العجز تضخميا.
وهذا دليل واضح على عدم قدرة النظرية الاقتصادية الرأسمالية على تفسير ما يجري في الواقع الاقتصاد العالمي. فالدولار القوي وحتى الدولار الضعيف لا يساعد كثيرا على تحسين النمو الاقتصادي العالمي، لأن الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي انعكست بشكل واضح على النظام النقدي العالمي، مما ساعد على إفراز نتائج خطيرة للاقتصادين الأميركي والعالمي. وهذا يعود الى طباعة الدولار مقابل إصدار السندات الحكومية بتكلفة دين عالية على الدولة لصالح الآخرين، مما أدى الى ارتفاع القيمة المالية (الاسمية) للدولار وإضعاف القيمة الحقيقية للاقتصاد الأميركي الممثلة للإنتاج الفعلي من السلع والخدمات وتراجع القوى التنافسية للسلع والخدمات الأميركية بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج وتفاقم العجز التجاري. فاستمرار قوة الدولار الاسمية المرتبطة ارتباطا وثيقا باستمرار تفاقم العجز في الميزانية أدى إلى تدني معدلات النمو الاقتصادي بشكل كبير، وهذا دليل على أن سعر الصرف الدولار الحقيقي مبالغ فيه.
لقد بات من المؤكد أن ارتفاع سعر الدولار وارتفاع أسعار الفوائد وارتفاع الدين العام لا يخضع إلى العوامل الاقتصادية أو النقدية المعروف عنها عالميا، بل أصبحت تخضع لعوامل نفسية لها علاقة بعلم النفس وليس بعلم الاقتصاد، وهذا دليل على الصراعات الداخلية في الكونغرس الأميركي حول الدين العام.
وبناء على ما سبق، يبدو جليا أن أزمة الدولار استقطبت اهتمام العالم بأسره نظرا لأهمية الدور الذي يلعبه في نظام النقد الدولي وانعكاسه المستمر على عدم الاستقرار في الوضع الاقتصادي العالمي، وأن السياسة النقدية التي اتبعها البنك الفيدرالي الأميركي أدت إلى زعزعة الثقة بالدولار. وإزاء هذا الوضع، ارتفعت الاستغاثة من دول صناعية ونامية لمواجهة أزمة الدولار التي أصبحت تهدد النظام النقدي العالمي بالانهيار. وبدأت هذه الدول تطالب بتأسيس نظام نقدي جديد يحتوي على الذهب وعملات الاحتياطي الرئيسية، إضافة الى الدولار.
كما ازداد اهتمام البنوك المركزية في العالم بشراء الذهب، وبلغت مشتريات الذهب في بداية العام الحالي 1137 طنا من مجمل الإنتاج العالمي والبالغ 3100 طن، وهذا دليل واضح على أهمية الذهب الذي يعد ملاذا آمنا في ظل الأزمات المالية، إضافة إلى كونه مخزنا مستقرا للقيمة وأداة أساسية للحد من الضغوط التضخمية واستمرار الأزمات الجيواقتصادية حول دول العالم. وبلغت حصة أميركا من الذهب حوالي 7500 طن مقابل حصة الصين 2400 طن وحصة روسيا 2750 طنا وحوالي 1500 طن للدول العربية، حسب بيانات البنك الدولي في آذار (مارس) 2023.
ومن المعلوم أيضا، وحسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أن أعضاء في الكونغرس الأميركي أكدوا أن الوقت الحالي يتطلب العودة إلى نظام بريتون وودز الذي كان الأساس في الاستقرار النقدي العالمي، إضافة إلى توقعاتهم بأن يصل سعر الذهب إلى حوالي 3000 دولار للأونصة الواحدة في نهاية العام الحالي. كما حذرت مديرة صندوق النقد الدولي من أن زيادة معدلات نمو دول مجموعة البريكس الى 33 % من الناتج الإجمالي العالمي وانخفاض هذا المعدل الى 30 % لدول مجموعة السبع سوف يؤثر على استمرارية الدولار كعملة احتياطي دولية، وذلك بإنشاء عملة موحدة مكونة من سلة عملات مجموعة البريكس، ناهيك عن دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون الدول الأوروبية الى تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي.
وبالمناسبة، لقد مثلت البنك المركزي الأردني العام 1990 لمناقشة مشروع تقدمنا به في اجتماع صندوق النقد العربي حول إمكانية إنشاء دينار عربي حسابي، ناهيك عما طالب به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد بإنشاء دينار إسلامي حسابي العام 2001، كذلك ما تعمل عليه البرازيل والأرجنتين حاليا لإنشاء عملة موحدة للبلدين تسمى "سور".
وحسب البيانات الصادرة عن البنك الدولي في بداية العام الحالي، فإن حصة الدولار من الاحتياطي العالمي انخفضت من حوالي 71 % الى 59 %، بينما ارتفعت حصة اليوان الصيني من 2.4 % إلى 3.9 %. كما أن حصة الدولار من تسوية المدفوعات الدولية انخفضت من 75 % الى 50 %، مما يشير إلى اقتراب انتهاء هيمنة الدولار في المدفوعات الدولية وبروز البترويوان بدلا من البترودولار في تجارة النفط. كذلك تراجعت حيازة السندات الأميركية عالميا من 9.5 تريليون دولار إلى 7.4 تريليون دولار. وتراجعت حيازة الصين من هذه السندات من 1.2 تريليون دولار الى 900 مليار دولار واليابان من 1.4 تريليون دولار إلى 1.1 تريليون دولار.
بناء على ما تقدم، وانطلاقا من التطور التاريخي لنظام البنك الدولي، وعلى الرغم من صعوبة معرفة أو التنبؤ بما سيجري في المستقبل، فهذا يدفعنا إلى التساؤل المحوري للوصول الى نظام نقدي عالمي جديد.
هل حان الوقت لإنهاء معيار الدولرة مثلما حصل بالجنيه الاسترليني، وإعادة المعيار الذهبي كونه كان الأساس في الاستقرار النقدي الدولي؟
باعتقادي، فإن النظام النقدي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأميركي بات عرضة لمشاكل نقدية ومالية تهدد اقتصادات دول العالم قاطبة. فالانتقال إلى نظام نقدي جديد يجمع بين سعر الصرف الثابت وسعر الصرف المعوم يمكن أن يكون الحل المثالي. فلا التثبيت المطلق ولا التعويم المطلق يؤديان الى تأمين الاستقرار النقدي العالمي وكبح الضغوط التضخمية وعودة النمو الاقتصادي الحقيقي.
وعليه، فمن المتوقع، خلال العقد الحالي، إمكانية بروز نظام نقدي عالمي جديد متعدد الأطراف يشكل الذهب المعيار الرئيسي له مقابل اليورو واليوان، إضافة الى الدولار.