عالم اللايقين ومصير المقهورين

أخبار البلد - يعيش العالم مرحلة انتقاليّة كبرى، ستنتهي بنظام عالميّ متعدّد الأقطاب، ليس كالّذي نتج بعد الحرب العالميّة الثانية؛ معسكرا الشيوعيّة والرأسماليّة، بل معسكرات اقتصاديّة، وعسكريّة أساسًا، تقوم على إعادة توزيع مناطق النفوذ والموارد


يظنّ الإنسان العاديّ أنّ عالم اللايقين الّذي نعيش كوارثه في هذه الحقبة الزمنيّة، عالم طارئ على البشريّة. بل حتّى أنّ جزءًا من الفئة الأكثر اطّلاعًا على التاريخ وتقلّباته وسخريته، تميل إلى النسيان أو تغفل حقيقة أنّ اللايقين والشعور بفقدان المعنى ظاهرة لصيقة بالتاريخ البشريّ. وبطبيعة الحال، لا تنشغل الطبقات الأكثر غنىً واستقرارًا والبعيدة عن التأثير المباشر للأحداث الجسيمة، بهذه الأسئلة الوجوديّة. ولكن مفكّرين وفلاسفة عديدين، بل وشعراء أيضًا، ظهروا في حقب مختلفة من التاريخ البشريّ، أطروا هذا الألم في قوالب فلسفيّة تأمّليّة، وحاولوا أن يسبروا عالم الإنسان الداخليّ ودوافع سلوكه، في خضمّ البحث عن الحقيقة والمعنى والسعادة. وانتهى بعضهم إمّا إلى العزلة واليأس أو الانتحار، بعد أن صدموا من هول الكوارث الّتي تحدث على يد البشر، وخاصّة الطبقات الحاكمة.

وفي العصر الحديث، وبعد عبور أوروبا المخضّب بالدماء مرحلة القرون الوسطى إلى عصر النهضة والأنوار والثورات، صدم هؤلاء من كثرة عدد زملائهم من المثقّفين الّذين خانوا دورهم بالانحياز إلى السلطة الظالمة في دولهم. وكانت أشدّ الصدمات وقعا على هؤلاء تلك الّتي أوجدتها الحرب العالميّة الأولى، حيث ظنّ الإنسان الأوروبي أنّ انتصار العقل كفيل بخلق عالم خال من الحروب وسفك الدماء. فجاءت هذه الحرب بين دول الحداثة، وهي ذاتها دول إمبرياليّة توسّعيّة متوحّشة، لتفاجأ بحرب ضروس مرعبة تفتك بعشرات الملايين، بعد أن كانت غالبيّة حروبها قبل أن تستوطن الحداثة في نخبها ومجتمعاتها، تجري ضدّ شعوب الدول الأخرى، خارج القارّة الأوروبية.

ومن نافل القول إنّ تلك المجتمعات عرفت اتّجاهات فكريّة ثوريّة قادها مفكّرون وثوريّون ومصلحون، ردًّا على انحدار البرجوازيّة الناهضة إلى مستنقع الاستغلال الداخليّ الطبقيّ، والتوسّع الاستعماريّ المتوحّش.

اليوم أو منذ أكثر من عام، تشتعل حرب وحشيّة يصفها البعض بأنّها حرب عالميّة ثالثة، ولكن بأشكال أخرى في أوكرانيا. هي حرب بالوكالة، بين الإمبرياليّة الأميركيّة وروسيا بوتين ومن ورائها الصين. دولة عظمى تشنّ حربًا مدمّرة على دولة كانت حتّى وقت قريب جزءًا من الإمبراطوريّة السوفييتيّة، أصرّت قيادتها المراهقة بزعامة زلنسكيّ، على الانحياز للإمبرياليّة الأميركيّة والسعي للانضمام لحلف الناتو بدل اعتماد نهج الحياد، وهي الإمبرياليّة الّتي سعت بمنهجيّة لمحاصرة روسيا وتهديد أمنها القوميّ، كما تقول قيادتها، أو تهديد طموحاتها الإمبرياليّة كما يقول المناهضون لها. وهو رأي تحمله فئات من اليسار واليمين.

لقد أثبتت حسابات الطرفين النتائج الكارثيّة لأفعالهما، إذ ظنّت روسيا بوتين أنّ السيطرة على أوكرانيا وتغيير الحكم سيجري في غضون أسبوعين أو شهر على الأكثر. أمّا الإمبرياليّة الأميركيّة توهّمت أنّ حصار روسيا اقتصاديًّا وفرض العقوبات الشاملة عليها سيؤدّي إلى انهيارها، في غضون وقت قصير. وهذا لم يحصل، فأكرانيا لا تزال تقاوم بشراسة، رغم الدمار والقتل وتحوّل الملايين إلى لاجئين خارج البلد، كما حصل مع السوريّين؛ والاقتصاد الروسيّ لم ينهر، بل هناك من الخبراء من يقول إن هذا الاقتصاد قد يشهد نموًّا في العام المقبل.

كلّ ذلك جاء بعد أن كانت المنطقة العربيّة لسنوات طويلة تشهد ثورات شعبيّة غير مسبوقة في حجمها وشموليّتها، ووجّهت بقمع بالغ الوحشيّة وغير مسبوق، من جانب أنظمة الطغيان والفساد والفشل. وخلال الأشهر الأولى للثورات العربيّة المجيدة، وكذلك لحركات الاحتجاج الشعبيّة الواسعة في أنحاء المعمورة ضدّ النظام النيوليبرالي المتوحّش في الدول الغربيّة وغيرها، ولدت آمال عريضة مستبدلة حالة اليأس والشعور باللايقين الّذي كان مستحوذًا على الناس، وشالًا فاعليّتهم.

أحدثت هذه الثورات صدى واسعًا في أوساط الشعب الفلسطينيّ، وأنعشت الآمال مجدّدًا بإمكانيّة إزاحة أنظمة الاستبداد والمافيات الحاكمة باعتبارها أنظمة تتحمّل المسؤوليّة عن استمرار المشروع الكولونياليّ الصهيونيّ وفظاعاته اليوميّة، في قلب الوطن العربيّ أيّ فلسطين، وفي أراض عربيّة أخرى؛ الجولان السوريّ وسيناء المصريّة، ومزارع شبعًا اللبنانيّة.

ولكن بعد سنوات من القمع الوحشيّ، الّذي لا يتصوّره عقل، الّذي مارسته ولا تزال المافيات الحاكمة بالتعاون مع دول خارجيّة، إقليميّة وعربيّة، شرقيّة وغربيّة، الّتي التقت موضوعيًّا مع مصالح منظّمات إسلاميّة جهاديّة فاشيّة، فانهارت الأحلام الكبيرة، وانتهت أفواج من الثوّار، الشباب خاصّة، إلى حالة من الاستسلام لليأس والانعزال والشعور باللايقين.

ويراقب الناس، وخاصّة هؤلاء الثوّار، ما يجري اليوم على الساحة العربيّة والإقليميّة من اصطفافات جديدة ومصالحات بين الأنظمة، ويطرحون الأسئلة الكبيرة مثل أين موقعهم في هذه التحوّلات الفوقيّة، وما هو مصير أحلامهم وتطلّعاتهم وثوراتهم، الّتي دفعوا ولا زالوا يدفعون من أجلها الغالي والرخيص، ومن أجل وطن عربيّ حرّ، ومتحرّر من الاستبداد والفقر والهيمنة الخارجيّة. وهل هذه المصالحات سلبيّة بالمطلق أم أنّها يمكن أن تفتح نافذة على المستقبل!

وسؤال آخر؛ كيف تستقيم إمكانيّة الاستفادة من تقارب عربيّ، حيث تكتسب أنظمة الاستبداد العربيّ استقرارًا وشرعيّة تمنحها لبعضها البعض، من دون الشعوب الّتي لا تزال ترزح تحت طائل الملاحقة والقمع والسجن والتعذيب في السجون، ناهيك عن هروب الملايين من الأوطان العربيّة، وموت الآلاف منهم في أعماق البحار قبل أن يلتحقوا بمن سبقهم إلى بلاد الغربة والتشرّد، مع أنّ الكثيرين من الناجين فوجئوا بالحماية السكنيّة والصحّيّة والاجتماعيّة في تلك البلاد، خصوصًا في الدول الإسكندنافيّة.

ما نشهده اليوم لدى الأنظمة العربيّة هو تبنّي نموذج التنمية من فوق، ومن خلال تجاهل المطالب الديمقراطيّة والحرّيّات وكرامة الإنسان الفرد. نعم، لقد نجحت أنظمة سلطويّة لا تقيم وزنًا كبيرًا للحرّيّات الفرديّة، في تحقيق تنمية من فوق، مثل الصين، الّتي سطّرت معجزة حقيقيّة من حيث النجاح في الارتقاء باقتصاد البلد إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ونشل مئات الملايين من الفقر، لكنّ ظروف وتاريخ وإمكانيات الصين مختلفة عن أيّ قطر عربيّ، وليس لدى الأنظمة العربيّة قيادات قادرة، وحكيمة وشجاعة ومؤهّلة. هذا فضلًا عن التحفّظ على نموذج الحكم الصينيّ.

ولكن من منظور الواقعيّة الثوريّة، أو الواقعيّة السياسيّة، ليس أمام الثوّار والطامحين لتحرّر والحرّيّة لشعوبهم، والّذين يقفون وراء المقهورين، سوى الاستمرار في الاعتماد على قدراتهم الذاتيّة وفاعليّتهم، والسعي لتطوير تصوّراتهم النظريّة والعمليّة، وفي الوقت ذاته السعي للإفادة من أيّ نافذة تفتح تلقائيًّا من هذه التحوّلات الإقليمية والدوليّة. فأنصار التغيير، أو الّذين ينخرطون في عمليّات التغيير السياسيّ والاجتماعيّ والديمقراطيّ، لا بدّ أن يمتلكوا مهارة إدارة صراعهم ضدّ الأعداء والخصوم، ويتقنوا فنّ العمل ضمن تحالفات واسعة ضروريّة، وكذلك القدرة على المرونة والمساومة دون التنازل عن المبادئ.

يعيش العالم مرحلة انتقاليّة كبرى، ستنتهي بنظام عالميّ متعدّد الأقطاب، ليس كالّذي نتج بعد الحرب العالميّة الثانية؛ معسكرا الشيوعيّة والرأسماليّة، بل معسكرات اقتصاديّة، وعسكريّة أساسًا، تقوم على إعادة توزيع مناطق النفوذ والموارد، بحيث تتراجع فيها القيم الإنسانيّة مثل المساواة والحرّيّات الفرديّة، وحقوق الإنسان؛ ولكن دون هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة على النظام العالميّ.

لا شكّ في أن وجود أقطاب متعدّدة أفضل من عالم بقطب واحد يهيمن ويشنّ الحروب، يحرّكه مجمّع عسكريّ اقتصاديّ وماليّ متوحّش وجشع، ولكن ليس بالضرورة أن يكون أفضل للشعوب، لأنّ معالم النظام العالميّ المنتظر ولادته لم تتّضح بعد، وقد يستغرق ذلك وقتًا طويلًا. وبالطبع، كلّ هذا لن يدفع الشعوب، سواء تلك الواقعة تحت الاستعمار الاستيطانيّ المباشر كالشعب الفلسطينيّ، أو الّتي ترزح تحت أنظمة الاستغلال الطبقيّ والاجتماعيّ والأنظمة الشعبويّة اليمينيّة، إلى الاستكانة والاحتفاء الساذج بنظام عالميّ جديد متوقّع، يفتقر للمثل والقيم التحرّريّة الاجتماعيّة والديمقراطيّة وكرامة الإنسان؛ بل سيدفع طلائع هذه الشعوب الثوريّة والديمقراطيّة، الأكثر وعيًا وثقافة، إلى تطوير فاعليّتهم وتوجّهاتهم للإفادة من التحوّلات الجديدة، الّتي لا يستطيع أحد معرفة مآلاتها النهائيّة، والضغط على النخب الّتي ستتبوّأ هذا النظام من أجل إجراء الإصلاحات الجذريّة الّتي تعيد الاعتبار للإنسان، وتخرجه من حالة اللايقين، وتولّد له المعنى.