السلفية علمانياً

أخبار البلد- 

في زمن متأخر عن زمن سلامة موسى قليلاً، استعمل عبد الله العروي تعبير السلفية في كتابه «العرب والفكر التاريخي» الصادر عام 1973. وعلى ضوء استعماله لهذا التعبير في كتابه هذا يفهم أن أنموذج «الشيخ» الذي يمثله محمد عبده، والذي يقابل أنموذج «السياسي» الذي يمثله لطفي السيد، ويقابل أنموذج «داعية التقنية» الذي يمثله سلامة موسى، في كتابه «الآيديولوجية العربية المعاصرة» الذي ترجم إلى العربية عام 1970، يشير إلى السلفي وإلى الفكر السلفي.

يعرّف العروي المنهج السلفي في كتابه «العرب والفكر التاريخي»: «بأنه اللجوء إلى ضمان الماضي لإنجاز إصلاحات فرضها الحاضر».

علي عبد الرازق وسيد قطب والعقاد وخالد محمد خالد وعلال الفاسي ومالك بن بني، كل هذه الأسماء تحمل عند العروي اسم «المفكر السلفي»!

وكان المفكر السلفي من بين هؤلاء هو علال الفاسي فقط، لأنه ينتمي إلى تيار السلفية في المغرب الذي نشأ فيه أوائل القرن الماضي، والذي يسمى تارة بالسلفية الجديدة، وتارة بالسلفية الوطنية.

هذه المعلومة يعرفها عبدالله العروي جيداً أكثر منا نحن أهل المشرق، لكن لا يريد لتنظيره أن يغرق في التفصيلات، ويريد له أن يسبح في التعميمات.

ففي مقالة من مقالات الكتاب، وهي مقالة «منهج الفكر المغربي المعاصر» تحدث في صفحات منه عن تلك السلفية في المغرب بمعناها الديني الإسلامي المعاصر، وبمعناها التاريخي في الإسلام.

لكن مع هذا الحديث المتخصص، فإنه كان يستعملها بمعنى فضفاض غير محدد. فهي تعني في استعماله لها الفكر الديني وغير الديني. وتعني الفكر التراثي بكل وجوهه، وتعني الفكر التقليدي السائد. وتعني الفكر المحافظ. وتعني الإسلامي وغير الإسلامي، كالناصري والبعثي!

يقول العروي في الفصل الأخير من كتابه: «ولا شيء أدل على هذا التقهقر الفكري من الحملة الموجهة ضد أعلام الإصلاح في الماضي حتى المعتدلين منهم مثل الأفغاني وعبده، واعتبار حركاتهم دسيسة من أعداء الإسلام». ثم وضع هامشاً قال فيه: «والغريب أن الحملة تعتمد على بحوث استشراقية لم يفهم مغزاها البعيد، كدراسات إيلي كيدوري، ونيكي كيدي، وألبرت حوراني».

بالنظر إلى تاريخ صدور كتابه «العرب والفكر التاريخي»، أظن أن العروي يقصد الإسلامي السلفي محمد محمد حسين في كتابه «الإسلام والحضارة الغربية»، وفي كتابه السابق «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، وربما يقصد غازي التوبة في كلامه عن محمد عبده في كتابه «الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم»، وربما يقصد أيضاً عبد المجيد عبد السلام المحتسب في كلامه عن محمد عبده في كتابه «اتجاهات التفسير في العصر الراهن»، وهذان - من حيث التصنيف - إسلاميان تأثرا بمنهج محمد حسين.

المشكلة أن لويس عوض، الذي هو ليس تراثياً ولا تقليدياً، بل هو مثل العروي مناهض للفكر السلفي والفكر التقليدي، ويساري، وتقدمي في عام 1983، في دراسته «الإيراني الغامض في مصر»، قال من حيث الفحوى عن الأفغاني ما قاله الإسلامي السلفي محمد حسين عنه، متكئاً في ذلك على دراسات نيكي كيدي، تلميذة كيدوري، حول الأفغاني، اتكاءً ثقيلاً من دون أن يصرِّح بمصدره!

يقول العروي في كلمته الختامية: «إن اجتثاث الفكر السلفي من محيطنا الثقافي يستلزم منا كثيراً من التواضع، والرضا بأن نتميز مؤقتاً عن الغير بنبرتنا فقط لا بمضمون ما نقول. رب معترض يقول: ستكون حينئذ ثقافتنا المعاصرة تابعة لثقافة الغير! وليكن - إذا كان في ذلك طريق الخلاص - سنؤدي بذلك ثمن سباتنا الطويل وتقهقرنا المتواصل واتباعيتنا (سنيتنا) المرّكبة - لقد أدينا ثمناً باهضاً للقومية الثقافية الفارغة - لقد افتخرنا طويلاً وأنتجنا قليلاً».

إن هذا الخيار الحدِّي الذي يطرحه العروي على المثقف الماركسي في العالم العربي، وهو إما أن يذعن للفكر السلفي، وإما أن يسلّم بالتبعية الثقافية للغرب، يخيّل لي أن برهان غليون في كتابه «اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية» الصادر عام 1986، استوحى العنوان الشارح لكتابه منه.

في هذا الخيار الحدي يبرز أن الفكر السلفي عند العروي مرادف للفكر السنِّي. وهذه المرادفة تتضح أكثر في مقالته «روح الحضارة الإسلامية» المنشورة في كتابه «ثقافتنا في ضوء التاريخ»، التي عقد في مطلعها مقارنة بين السنِّي والمستشرق. والسني في هذه المقارنة هو بتعريفه المفكر التقليدي الإسلامي.

في ظل الاحتفاء اليساري الكبير بأطروحة كتاب «العرب والفكر التاريخي» وكتابه السابق، دعا اليساريون عبدالله العروي إلى لبنان لإلقاء محاضرة، وقد ألقاها في الشهر الثالث من عام 1974، في «النادي الثقافي العربي» ببيروت، وكان موضوعها وعنوانها «نقد الفكر السلفي».

من الواضح أن العروي يستعمل كلمة «سلفي» بالمعنى نفسه الذي يستعمل الغرب فيه كلمة «أرثوذكسي» في غير مجالها الأصلي.

والأرثوذكسية التي هي أقدم طائفة في الديانة المسيحية، والتي تعني الطريق القويم والمستقيم، دلالتها العامة القدم والقدامة والأصل والتشدد. والمؤرخون والباحثون الغربيون يصفون الحركات المسيحية الأصلية بالأرثوذكسية، ويصفون كل الحركات المنشقة عنها والمتفرعة منها بأنها غير أرثوذكسية. وخارج نطاق الديانة المسيحية استعمل المؤرخون والباحثون الغربيون ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر إزاء طائفة الحريديم اليهودية وصفها بالأرثوذكسية. ومن ذلك التاريخ يرفق باسمها العبري التوراتي (المرتجفون من كلام الله)، اسم اليهود الأرثوذكس.

طبّق المستشرقون هذا الاستعمال الحر والمتحرر لمصطلح الأرثوذكسية على الاختلاف المللي في الإسلام، فالأرثوذكسية في الديانة المسيحية يقابلها عندهم في الديانة الإسلامية أهل السنة أو الفكر السني.

كذلك يصفون الشيعة الإمامية بالأرثوذكسية الشيعية المعارضة للأرثوذكسية الإسلامية، وذلك على اعتبار السنة - كما يذهب إلى ذلك غولد تسيهر- هي الشكل الرسمي للإسلام، ولا يصفون الإسماعيلية المنشقة عن الإمامية بالأرثوذكسية، ولا يصفون بها الدرزية والنصيرية المتفرعتين عن الإسماعيلية.

وجرياً على هذه السنّة الغربية، سك المؤرخون والباحثون الغربيون المعنيون بالماركسية وتحدياتها في القرن الماضي تعبير «الماركسية الأرثوذكسية»، ويعنون به الماركسية التقليدية السائدة.

وثمة كتاب ومترجمون عرب، استعملوا تعبير «الماركسية السنية»، - فعلى سبيل المثال - في كتاب «البطل في التاريخ» لسيدني هوك، الذي صدرت ترجمته إلى العربية عام 1959، استعمل مترجمه مروان الجابري ومُراجع الترجمة أنيس فريحة في متن الفصل الخامس منه وفي العنوان الشارح لهذا الفصل تعبير «الماركسية السنية»، وقالا في تسويغ هذا الاستعمال: «استخدامنا تعبير (السنية) ترجمة لتعبير (الأرثوذكسية) باعتباره أقرب ما يكون إلى مفهوم القارئ العربي، ذلك أن الأرثوذكسي هو المستقيم الرأي، صحيح المعتقد، الذي يتبع السنّة اتباعاً متزمتاً حرفياً»!

سيدني هوك فيلسوف أميركي، كان ماركسياً تروتسكياً إلى عام 1940، وفي كتابه المشار إليه الذي صدر عام 1943، رأى أن «الماركسية الأرثوذكسية» مثلتها وجسّدتها مؤلفات إنجلز وبليخانوف وكوتسكي ولينين وتروتسكي. وللحديث بقية.