التعددية السياسية وهوية الدولة والمجتمع (1)

أخبار البلد-

 
في سياقات الحراك السياسي الذي لا يهدأ في داخل كل دولة تظهر العديد من المسببات التي تدفع نحو الحالة المطلوبة من التعددية السياسية الحقيقية في ظل تحول ديمقراطي ويؤسس لحالة انفتاح سياسي الذي يؤدي بدوره الى حالة من استقرار الدولة ونظامها السياسي.
هذا ما جرى التوافق عليه في الديمقراطيات الغربية المتقدمة واصبحت بمثابة تقليد سياسي مستقر تتجلى مظاهره في تجلي مظاهر الحريات السياسية في جولات الانتخابات الرئاسية او البرلمانية لتلك الدول بحسب شكل الانظمة السياسية وطبيعتها.
في الديمقراطيات الناشئة والمتعثرة الأمور في هذا السياق مختلفة تماما ، فهي لازالت تراوح مكانها ، ما تلبث أن تتقدم خطوة حتى تعود وتتراجع خطوات ، وابرز ما يميزها أنها تهتم بالأشكال والقوالب للممارسة الديمقراطية في حين تُغيّب المضامين الحقيقية وجوهر العملية الديموقراطية المتمثلة بالحريات العامة واحترام حقوق الانسان خاصّة السياسية والمدنية منها .
فحيث توجد برلمانات يوجد تزوير لإرادة الناخبين بالانتخابات، وحيث توجد أحزاب سياسية قائمة توجد مضايقات ومحاكمات سياسية وملاحقات أمنية، وحيث تُطلق التصريحات والوعود بحياة سياسية مثالية توجد قوانين تعسفية تعصف بحق الممارسة السياسية السلمية وتحصرها في أضيق الهوامش مانعة عنها اوكسجين الحرية وحق التجمع السلمي، الأمر الذي يمنع قيام تعددية سياسية حقيقية وتكوين حالة حزبية قوية وتقطع الطريق على تشكل نواة صلبة للوصول الى حالة التداول السلمي على السلطة.
أما عن هوية الدولة والمجتمع فهي مسألة في غاية الأهمية والعبث بها يشكل خطورة مضاعفة؛ ذلك أنها تنبع من عمق تاريخ المجتمع وطبيعة تكوينه الاجتماعي، وهو تفاعل كل من التاريخ والدين واللغة لكل مجتمع في حالة ربما تسبق تكون الدولة القطرية ذاتها، فهي تشكل الأرضية التي تُبنى عليها الدول المعاصرة، وتأتي الدولة كاطار سياسي يترجم هذه الهوية المجتمعيّة على شكل ما يعرف بالعقد الاجتماعي كنظرية سياسية، ثم تقوم الدولة مع نشأتها بترجمة ذلك العقد الاجتماعي على شكل مواد محددة في الدستور يترتب عليها توزيع السلطة وتحدد على أثرها الحقوق والواجبات.
هذه مسألة تخص جذور وتاريخ وعادات مجتمع كل دولة على حدة، او ربما تتشابه مجموعة من الدول ذات طبيعة مشتركة أو متقاربة كالاشتراك بالدين الواحد او اللغة الواحدة او التاريخ المشترك ، ولكنها بكل الأحوال كجزء من العلوم الانسانية لا يصح نقلها او نسخها والقيام بإسقاطها بتفاصيلها على دول ومجتمعات أخرى ذات هوية مختلفة واحيانا متباينة او ربما متنافرة، كما يحدث اليوم من محاولة فرض الهوية الغربية على المجتمعات والدول العربية والاسلامية بدعوى أنها جزء من العولمة، والعولمة في حقيقتها قابلة للنسخ والاستنساخ في مجالات الابداع التقني والفني ومختلف صنوف الانتاج العلمي والمعرفي والتطوير المادي ولكنها قطعا لا تنطبق على هوية الدول والمجتمعات.
فلا يصح أن تنقض ثقافة مجتمع لتحل محلها ثقافة أخرى أو أن تنسخ لغة قوم لتفرض مكانها لغة أخرى، أو أن تسطوا على تاريخ الشعوب والأمم وتحاول محو ذاكرتها وسلخها عن تاريخها بحلوه ومرّه بدعوى العولمة.
واذا كان الغرب تحديداً قرر أن يمضي في غمار هذه التجربة، فإنها بطبيعة الحال تستدعي نظرية "صراع الحضارات" لتحل محل حوار الثقافات، وتقطع الطريق على دعاة التعايش السلمي والتفاعل الحضاري بشكله الإيجابي الذي يسمح بمرور المشتركات الانسانية، ويحترم خصوصيات الهويات الذاتية لكل دولة ومجتمع في هذا العالم.
أما عن أثر وجود التعددية السياسية على تطوير الحياة السياسية وعلاقتها بهوية الدولة والمجتمع فهو مجال حديثي في المقال التالي.