سقف الدين الأميركي على مفترق طرق
أخبار البلد ــ ما زالت أزمة سقف الدين الأميركي تراوح مكانها منذ اثارته قبل ثلاثة أسابيع وبدء التفاوض حوله بين الادارة الأميركية والكونغرس الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري بهدف التوصل الى اتفاق لرفع السقف قبل الأول من حزيران المقبل وبمبلغ 1،5 تريليون دولار ليصل السقف بعد الرفع الى نحو33 تريليون دولار وتحذر وزارة الخزانة الأميركية من التخلف عن سداد الديون اعتبارا من بداية حزيران وضرورة رفع سقف الدين العام حتى تستمر في دفع المستحقات واعتبار ذلك الموعد حتمي ونهائي مع بدء العد التنازلي لعدد الأيام التي تفصل أميركا عن أكبر تحد في تاريخها مع اتهام كل طرف للاخر باثارة هذا الموضوع في اللحظات الأخيرة وضيق الوقت للتوصل لحل حوله ، واذا لم يرفع سقف الدين ستكون المرة الأولى التي تفشل فيها عن سداد الديون وسندات الخزانة الأمريكية هي الأكثر أمانا عالميا والفشل في دفع الدين يشكك بها وفي حال عدم موافقة الكونغرس على رفع السقف ستكون سابقة تاريخية في الولايات المتحدة بحسب الوزارة.
وقد أدى اتساع الفجوة بين سندات الخزانة الأميركية لأجل شهر وثلاثة أشهر بأكبر نسبة منذ العام 2001 بوزارة الخزانة لأن تخفض من اصدار ديونها قصيرة الأجل وتتجه الى السندات.
اننا نسمع عن سقف الدين الأميركي ولا نسمع بهذه المشكلة في دول أخرى ، فهناك دولتان وحيدتان فقط لديهما سقف للديون كمبلغ معين وهما الدانمارك وأميركا ، وليس نسبة من الناتج المحلي الاجمالي كما في الدول الأخرى.
ويبلغ سقف الدين في الدانمارك 284 مليار دولار وتم تغيير هذا السقف مرة واحدة في عام 2010 ، أما دين الدانمارك المستغل من السقف فيبلغ 93 مليار دولار أي ثلث سقف الدين ويشكل 23% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد.
أما سقف الدين الأميركي فقد تم تغييره 78 مرة منذ عام 1960 موزعة ما بين 49 مرة في عهد رئيس جمهوري و29 مرة في عهد رئيس ديمقراطي ، وقد تجاوز السقف حجم الناتج المحلي الأميركي لأول مرة في عام 2013 ليبلغ 16،7 تريليون دولار.
وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة فان ديون الأسرالأميركية ( اجمالي ديون المستهلكين في أميركا ) ترتفع الى مستويات تاريخية عند 17 تريليون دولار مع نهاية الربع الأول 2023 ، موزعة ما بين 12 تريليون دولار لديون الرهن العقاري، 986 مليار دولار ديون بطاقات الائتمان ، 1،6 تريليون دولار قروض الطلاب ، 1،56 تريليون دولار قروض السيارات.
ووسط استمرار أزمة سقف الدين ، فقد حذر الرئيس الأميركي من أن الأزمة تعرض الاستراتيجية العسكرية الأميركية للخطر وتصب في مصلحة الصين ، واعتبار رئيس أركان الجيش الأميركي أن التخلف عن السداد سيضر بمعنويات الجيش وجهوزيته وقدراته اضافة الى الاضرار بالسمعة على الصعيد الدولي وعواقب اقتصادية كبيرة ستنعكس على الأمن القومي وسيتأثر دفع رواتب الجنود والروح المعنوية للقوات وانظمة الأسلحة والعقود.
ويدرس الرئيس الأميركي حاليا التعديل الدستوري في المادة (14) لحل أزمة سقف الدين والتي تتيح منح صلاحيات استثنائية للرئيس بالاستدانة بتجاوز السقف دون العودة للكونغرس ، وفي نفس الوقت مستبعدا اللجوء حيث ذلك يستغرق وقتا وليس لديه الوقت الكافي لذلك حسب حديثه.
وحسب تلك المادة فان الدين الأميركي لا يجب أن يكون موضع شك ويجب على الحكومة الأميركية عدم التنصل من التزاماتها ، ويقول خبراء القانون أن تلك المادة لم تتناولها المحاكم الى حد بعيد وقد تحتاج أشهرا لديها ويختلفون في تفسيرها وما يتطلبه الأمر لتطبيقها ، وأن الرئيس الأميركي ليس لديه سلطة على المادة (14) من الدستور الأميركي ويجب فهم المادة والاجماع عليها كما أنه ليس لديه سلطة في الشأن المالي كباقي رؤساء الدول.
وفي الجانب الاخر ، فان الجمهوريين يحذرون من أنه يجب حل أزمة سقف الدين قبل فوات الأوان ، ويرفضون التصويت على رفع السقف ما لم يوافق الحزب الديمقراطي على تخفيض الانفاق في الموازنة الفيدرالية وخصوصا المتعلق بتعويضات البطالة وبرامج الحماية الاجتماعية ومكافحة الفقر والطاقة وتنفيذ اصلاحات ويحملون الديمقراطيين المسؤولية.
.
وقد صرح البيت الأبيض أن المحادثات الخاصة بسقف الدين صعبة للغاية ويجب أن يفهم كلا الجانبين الجمهوري والديمقراطي أنهما لن يحصلا على كل ما يريدانه ونحاول الوصول الى ميزانية معقولة ومتفق عليها من الحزبين.
أما صندوق النقد الدولي فقد استبعد تخلف الولايات المتحدة عن سداد الديون ولكن الخطر موجود ، وأنه واثق من قدرتها على تجنب التخلف عن سداد الديون ومن المستبعد حصول تغير سريع في حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية ، كما استبعد خفض الفائدة الأميركية قبل نهاية عام 2024 أو بداية عام 2025.
أما رئيس الفيدرالي فقد أشار الى أنه قد لا يحتاج لزيادة كبيرة للفائدة الأميركية في الاجتماع المقبل لشهر حزيران بسبب اضطرابات القطاع المصرفي وضغوطات الائتمان المرتفعة.
وفي منطقة اليورو ، فقد توقع البنك المركزي الفرنسي انتهاء البنك المركزي الأوروبي من رفع الفائدة بالمنطقة بحلول شهر أيلول القادم ، أما بنك باركليز البريطاني فلا يتوقع خفض الفائدة هذا العام ، فيما يرى وزير الخزانة البريطاني أن القضاء على التضخم أولوية على النمو الاقتصادي.
ووفق التحليلات الاقتصادية ، فان هناك ثلاث سيناريوهات محتملة للاتفاق على سقف الدين الأميركي :-
- السيناريو الأول : التوصل الى اتفاق في اللحظة الأخيرة وقبل الموعد النهائي في 1/6/2023.
وعدم اليقين يتسبب بتراجع الانفاق وتراجع أسواق الأسهم.
- السيناريو الثاني : التوصل الى اتفاق بعد الموعد النهائي ، واذا امتدت المفاوضات الى ما بعد 1/6/2023 قد توقف الشركات التوظيف والاستثمار وسيؤدي ذلك الى انكماش الناتج المحلي الاجمالي في أميركا بنسبة 2% في الربع الثالث و1،5% في الربع الرابع.
وتأخر الاتفاق لمدة شهر سيسبب تراجع الناتج المحلي بأميركا بنسبة 2% في الربع الرابع 2023 ، و2% في الربع الأول 2024 .
- السيناريو الثالث : عدم التوصل الى اتفاق ، وسيسبب ركودا أشد حدة من الأزمة المالية العالمية التي وقعت في العام 2008 ، وقد يسبب تراجع وول ستريت ( أسواق الأسهم الأميركية ) بنسبة (45%) وارتفاع البطالة بنسبة 5% .
ويرى خبراء اقتصاديون أن عملية رفع سقف الدين تعتبر سياسية ولا يمكن العبث باقتصاد أميركا لأسباب سياسية، وأن الخلاف مستمر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بهذا الشأن وهو متكرر وتشهد صراعا كبيرا جدا بينها فيما يخص رفع سقف الدين ، وموضوع رفع السقف أصبح أكثر خطورة حاليا بسبب أسعار الفائدة وقد تم رفع معدل الفائدة لدفع المستثمرين على الاقبال لشراء السندات الأميركية ، وليس هناك رؤية واضحة لما سيحدث ، والتوقع بأنه سيتم رفع سقف الدين والحزبان سيتفاوضان على خفض النفقات، وأن افلاس أميركا لم يحصل في التاريخ ومستبعد حدوثه ولديها امكانيات عديدة تساعدها على الوفاء بالتزاماتها ويمكن لوزارة الخزانة استبدال سندات خزينة واطفاء أخرى كما فعلت في عام 2013 ، وأن بعض الأنشطة غير الأساسية قد تتوقف بنسبة 25% وقد يتراجع الناتج المحلي الاجمالي الأميركي بنسبة 4% كما قد ينخفض سوق الأسهم بنسبة 30% في حال التوقف لمدة شهر واحد، وقد شهدت المؤشرات الأميركية تراجعات جماعية مع اقتراب تخلف الحكومة عن سداد التزاماتها وترقب المستثمرون تطورات أزمة سقف الدين وسط تحذيرات من تداعيات فشل الاتفاق بينما تترقب الأسواق العالمية أيضا لمحادثات سقف الدين الأميركي ، كما أن التخلف عن سداد الديون يمكن أن يكون له مخاطر كبيرة على الشركات التي استفادت من الانفاق الحكومي.
ويبلغ مستوى الدين الى الناتج المحلي الاجمالي الأميركي 128% ويعتبر مناسبا، بينما يبلغ في الصين 279% واليابان 250%، وقد وضعت وكالة فيتش تصنيف الولايات المتحدة الحالي ( AAA ) وهو أعلى تصنيف يمكن أن تحصل عليه أي جهة مستدينة تحت المراقبة السلبية مع امكانية خفضه ويعني ذلك التصنيف ديون ذات جدارة ائتمانية عالية وأقوى قدرة على السداد وأدنى فرصة للتخلف ، وأشارت الى أن اعطاء الأولوية لسداد السندات على المدفوعات الأخرى يجنب واشنطن التعثر .
وفي حال تخفيض التصنيف فسيكون ذلك المرة الثانية التي يخفض بها حيث كانت المرة الأولى عام 2011 من قبل وكالىة ستاندرد أند بورز من (AAA ) الى ( AA+ ) ويدل على مخاطر ائتمانية منخفضة للغاية ولكن قد يحمل مخاطر طويلة الأجل ، وذلك بعد سن تشريع لخفض العجز المالي بمقدار 2،1 تريليون دولار على مدى 10 سنوات وهو ما يشكل نصف الدفعة الأولى التي دعت اليها وكالة التصنيف البالغة 4 تريليون دولار وأثر ذلك الخفض في التصنيف على تراجع مؤشرات الأسهم .
كما دعت وكالة موديز الولايات المتحدة الى سداد مدفوعات الفوائد المستحقة منتصف حزيران المقبل لتجنب خفض تصنيفها، وأشارت الى أن هيمنة الدولار على التجارة العالمية والتمويل دوليا ستستمر لعقود رغم الأزمات التي يعاني منها وذلك لعدم توفر البديل رغم قيام بنوك مركزية بشراء 228 طنا من الذهب في الربع الأول 2023 وعملات أخرى وخفض حصة الدولار الأميركي في احتياطياتها، وارتفاع قيمة احتياطيات الصين من الذهب لأكثر من 132 مليار دولار بنهاية شهر اذار 2023 بالاقبال على شرائه وتراجع اليوان الصيني لأدنى مستوياته أمام الدولار هذا العام وقيام الصين بتثبيت معدل الفائدة عند 3،65% للمرة التاسعة على التوالي.
ويتم اصدار سندات الخزانة الأميركية برقم متسلسل وليست موجهة أو مصدرة لجهات استثمارية معينة، ولا يمكن استخدام عدم الوفاء بالتزامات أميركا تجاه الدول المستثمرة في السندات الأميركية كنوع من العقوبات التي يمكن أن تفرضها على الدول .
علما بأن 22% من سندات الخزينة هي تحت تصرف الفيدرالي ، وأن 32% من الدين العام للولايات المتحدة هو في الخارج، أما الصين بمفردها فتحتفظ بأكثر من تريليون دولار كاستثمار في سندات خزانة أميركية لدعم عملتها الوطنية.
ووسط تلك الاضطرابات المالية توقع بنك جي بي مورغان أن الاقتصاد الأميركي قد يدخل في ركود في الربع الأول 2024، ويرى فرصة بخفض الفائدة ابتداءا من الربع الثالث 2023 ويدعو البنوك الأميركية للاستعدادلأسعار فائدة مرتفعة تصل الى 7% وينصح المستثمرين بحيازة النقد والذهب والتخلص من الأسهم وأن الركود أمر حتمي وان التضخم وصل لمستويات مرتفعة جدا والركود يساهم في خفضه واذا دخل الركود فان الفائدة على سندات الخزينة الأميركية ستنخفض الى 2،5% بينما حاليا 4،14% ، وكذلك يتوقع بنك أوف أميركا استمرار تخارج الأموال من الأسهم لصالح السندات وصناديق النقد ، أما بنك باركليز البريطاني فلا يتوقع خفض الفائدة هذا العام.
أما أثرياء ومستثمرون أميركيون فيشيرون الى أن الفترة الاستثنائية للاقتصاد الأميركي تقترب من نهايتها ويحذرون من تباطئه وأن البيئة الاستثمارية للشركات أكثر صعوبة، اي أن الانفاق المفرط وطباعة الدولارات الذي رافق جائحة كورونا سوف ينتهي.
ويرى الأمين العام للأمم المتحدة أن الوقت قد حان لاصلاح مجلس الأمن الدولي ونظام برايتون وودز الذي يسمح منذ وضعه في عام 1971 للولايات المتحدة حصرا بطباعة الدولارات دون أن يقابل الكمية المطبوعة غطاءا من الذهب بعكس الدول الأخرى، وتحذيره من أنه اذا سقطت اقتصادات الدول النامية ينهار العالم ويجب مساعدة هذه الدول لتحقيق العدالة المالية.
خبير اقتصادي ومالي